"لام شمسية".. دراما مصرية تقتحم المسكوت عنه مجتمعيا
جسارة اقتحام عوالم المسكوت عنه عبر تجسيدها دراميا لا تتوافر للكثير من كتاب وصناع الدراما والسينما في مصر، وطرح هذه المسألة أشبه بالتصدي جراحيا لأورام خطيرة متفشية في جسد المجتمع، يسكت عنها الجميع خوفا من مناقشتها على الملأ وتحدث إثارة واسعة للرأي العام.
في المسلسل المصري “لام شمسية”، طرحت لأول مرة أحد أخطر الأورام التي تسكن جسد المجتمع ويتعرض لها بعض الأطفال الأبرياء، وهي قضية “البيدوفيليا” أو التحرش بالأطفال، لمعرفة جذور هذا الورم الخبيث، ومحاولة تشريحه أمام الجمهور، ودق أجراس الإنذار للأسر المصرية للالتفات إلى سلوكيات أطفالهم.
قضية حساسة
صناع المسلسل رسموا دوائر متصلة تؤدي إلى كارثة البيدوفيليا أولها أقنعة بعض المقربين وتجاهل شكاوى الأطفال
ألقت المؤلفة مريم نعوم حجرا ثقيلا في مياه الدراما بتقديمها مسلسل “لام شمسية”، مفجرة قضية التحرش بالأطفال، والذي حملها إلى مصاف الكتاب الجسورين مقتحمي عوالم الكوارث التي آثر المجتمع ضمنيا دفنها لتفادي تبعاتها المؤلمة.
في مسلسل”لام شمسية”، والاسم مستقى من حرف اللام الشمسية التي تكتب ولا تلفظ خلال القراءة، تتضافر أوراق مريم نعوم مع بصمات المخرج الشاب كريم الشناوي، الذي شهدت الأعوام الماضية أعمالا درامية مهمة له لفتت النظر إلى موهبته الإخراجية في مسلسلات: “خلى بالك من زيزي” و”الهرشة السابعة” ورافقته في نجاحه المدوي الفنانة أمينة خليل، والتي جسدت دور نيللي زوجة الأب في “لام شمسية” التي شكت في تحرش المعلم الخاص بابن زوجها الطفل وصديقه المقرب.
وفاجأنا الفنان محمد شاهين الذي جسد شخصية المعلم المتهم بالتحرش بأداء جيد عبر مشاهد ركزت على تعبيرات وجهه وعينيه وحركات يديه دون نطق كلمة واحدة.
قبيل بدء عرض المسلسل طرح صناعه بروموهات جاذبة لانتباه المشاهدين، تتسم بالغموض وتشدهم بقوة إلى متابعة العمل، وأصدروا الملصق الدعائي (البوستر) الخاص به، وصممه الفنان المصري كريم آدم، واحتوى على عناصر بصرية غير معتادة في الدراما المصرية، بتركيبة فريدة من الألوان والشفرات الدالة، حيث وقف أبطال العمل في “البوستر” على هيئة رأس سهم تتجه نحو الطفل يوسف، وجسده علي البيلي، وهو صاحب مأساة التحرش به مزودا في صورة البوستر برسم أجنحة ملائكة في خلفية صورته، تدل على براءة طفولته المنتهكة.
دراما "لام شمسية" تغرس نفسها بقوة كواحدة من أهم الأعمال التي تصدت بشجاعة لكسر “التابوهات” المسكوت عنها
بينما احتوت صور أبطال المسلسل على رموز مرسومة خلف كل شخصية ورسمة القناع خلف صورة الفنان محمد شاهين الذي جسد دور “وسام” المعلم المتهم بالتحرش والورود خلف صورة الفنانة يسرا اللوزي التي جسدت دور زوجة “وسام” للدلالة على شخصيتها الهادئة والطيبة التي تتطلع إلى عالم مثالي لا تجده على أرض الواقع، والقفص أو الصندوق على خلفية الزوجين طارق وجسده الفنان أحمد السعدني وهو والد الطفل يوسف ونيللي زوجة أبيه وقامت بدورها الفنانة أمينة خليل.
وعبر سردية جسورة، بدأ المسلسل أحداثه بتسليط الضوء على سلوكيات الطفل يوسف الذي لفت الأنظار إلى موهبته، وهو طفل عنيف مع أقرانه في المدرسة بشكل غير مفهوم للمحيطين به، ويميل للعزلة، ويحاول والده طارق وزوجته نيللي كسر هذه الحالة عبر تنظيم احتفال مبهج بعيد ميلاده التاسع، إلا أن زوجة أبيه تكتشف أثناء تجولها في المنزل بعد الحفل عبر زجاج غرفة يوسف مشهدا يوحي لها باحتضان معلمه وسام له بطريقة غير لائقة، لتقتحم الغرفة صائحة بأعلى صوتها باتهامها الصريح لوسام بالتحرش بالطفل.
وعلى إثر هذا الموقف جاء الأب إلى الغرفة مشتبكا مع وسام وموجها له لكمة قوية تفقده الوعي، وتوجهوا إلى المستشفى وهناك يكتشفون إصابته بجرح كبير نتيجة الضربة لتصاب زوجته رباب التي جسدت شخصيتها الفنانة يسرا اللوزي بحالة صدمة، وفي المستشفى يسأل طارق زوجته نيللي سؤالا مباشرا عن تفاصيل المشهد الذي رأته لتتهم وسام بهذا الاتهام المروع، لتقول له إنه كان يحتضن يوسف بشكل مريب، ما يجعل زوجها يراجع موقفه ولا يصدق روايتها مستندا إلى كون وسام ليس مجرد معلم إنما صديق عمره، ولا يمكنه إيذاء ابنه لتبدأ نيللي الشك في طبيعة تفسيرها.
كوابيس نيللي
تعاني نيللي من كوابيس مخيفة غير مفسرة، وتكشف الأحداث لاحقا عن تعرضها في طفولتها لحادثة تحرش ولدت لديها صدمة نفسية، وأعادت شكوكها بتعرض يوسف للتحرش هذه الصدمة المؤلمة للحضور بقوة في وعيها مستندة عليها في استشفاف ما جرى مع الطفل، فوقوعها ضحية تحرش جعلها واعية بالفرق بين التحرش الحقيقي والمزيف.
من هنا قفز العمل إلى لب القضية، فالكثير من الآباء لا يصدقون روايات التحرش بأطفالهم لتسير الأمور من سيّئ إلى أسوأ، وتفاجأت الأم أثناء حوارها مع طفلها ياسين وهو الأخ الأصغر غير الشقيق ليوسف أنه يلعب مع أخيه ألعابا كثيرة منها لعبة سرية يعطيه يوسف على أثرها كل مرة نجمة سحرية تضيء في الظلام، ويقود الأمر الأم لصدمة سببها أن أمر التحرش انتقل من وسام إلى يوسف وأخيه ياسين.
نقل صناع المسلسل المشاهدين إلى تفاصيل منزل وسام، وعلاقته الوثيقة بابنته المراهقة التي تكتشف بالصدفة وجود كاميرا إلكترونية مخبأة في غرفتها لتثور بعدها وتترك المنزل، ويدور بعدها حوار بين الأبوين (وسام ورباب) تقول فيه الأم بوضوح إنها لم تهدف من وراء تركيب الكاميرا مراقبة ابنتها، وهو الحوار الذي يعني شكها غير المعلن في وجود علاقة تحرش بين زوجها وابنتهما.
كشف المسلسل قيام وسام بإعطاء حبوب مهدئة لزوجته رباب للسيطرة عليها وإبقائها في حالة صمت مستمر، ليضعنا العمل أمام عالم المتحرش السري، فوسام شخصية تظهر للعلن بقناع سميك من إتقان تمثيل الطيبة والبراءة ويخفي القناع مفترسا لا يرحم أقرب الناس إليه، وهو دور معقد ومليء بالتشوهات النفسية الخطيرة.
ثم انتقلت سردية المسلسل إلى ركن درامي مهم في نسيج العمل، حيث يمارس المعلم وسام ألعابا نفسية خطيرة على الطفل وسام بتجاهله وإسناد دوره المسرحي الذي وعده به من قبل في المسرحية التي تقدمها المدرسة إلى طفل آخر لإخضاع الطفل له.
وطرح العمل حلا مفتاحيا يدعو من خلاله المشاهدين إلى اللجوء إليه عند شكهم بوجود تحرش بالأطفال يتمثل في العرض على الطب النفسي لسبر أغوار أطفالهم والوصول إلى الحقيقة، وهو ما عرضه المسلسل، حيث لجأت والدة الطفل يوسف إلى الطبيب النفسي رامي وجسده الفنان علي قاسم، ليكتشف بالفعل وجود تحرش بيوسف الذي يعود طفلا طبيعيا بعد عدة جلسات من العلاج النفسي الذي يتضح أثره جليا في رفض يوسف التعامل القريب مع وسام، ويركض فور أن ربت وسام له على كتفه.
دوائر متصلة
رسم صناع مسلسل “لام شمسية” دوائر متصلة تؤدي إلى كارثة البيدوفيليا، أولها أقنعة بعض المقربين الزائفة بالحنو والطيبة وما تخفيه من وحشية تشبع رغباتها المريضة بالتعدي على الأطفال، وثانيها ضرورة مواجهة الأمر بشجاعة من الآباء والإنصات برصانة لكل ما يخبرهم به أطفالهم مهما كان وإعادة بناء جسور الثقة معهم، وثالثها طرح الأمر على المتخصصين من الأطباء النفسيين للوقوف على المدفون بعمق داخل ذوات الأطفال، ورابعها إيقاظ المجتمع بأسره للتصدي لهذا الورم وعدم السكوت عليه.
استخدم صناع المسلسل العديد من زوايا التصوير المتميزة أبرزها زاوية وضع الكاميرا تحت مستوى العينين، وتظهر مدى هيبة الشخص وضخامته، وأحجام اللقطات المقربة للغاية التي تركز على تعبير معين في الوجه كالخوف والقلق والفزع مثل التركيز على حركة أصابع اليدين والعينين والتركيز على العيون وهي تبكي.
تغرس دراما “لام شمسية” نفسها بقوة كواحدة من أهم الأعمال التي تصدت بشجاعة لكسر “التابوهات” لتذكرنا بالأمور التي تسكن القرية والمدينة المصرية، والمتفق بشكل ضمني على عدم التطرق لها مجتمعيا، وتصدى لاقتحامها الأديب المصري الراحل يوسف إدريس، حيث قدم حزمة من القصص والروايات التي اقتحمت بشجاعة عوالم تضافر العنوسة والفقر المدقع والحرمان العاطفي، من الوقوع في الخطيئة عبر قصته القصيرة “بيت من لحم”، إلى التدين المزيف في قصته “أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور”، وتضمنتهما مجموعته المهمة “بيت من لحم” عام 1971.