أصدره بالإنجليزية وطرحت ترجمته للعربيّة ضمن تظاهرة معرض الرياض للكتاب
تركي الفيصل يكشف في «الملف الأفغاني» سيرة تسلسل غير عادي للأحداث
فرض الحدث الأفغاني نفسه مجدداً على رؤوس نشرات الأخبار خلال الأسابيع القليلة الماضية بعد انسحاب عسكري أميركي كلي بدا للوهلة الأولى متسرعاً على الرّغم أنّه تحقق في إطار تفاهمات مسبّقة مع حركة «طالبان». وشاهد الملايين حول العالم مقاطع بثّتها محطات التلفزة لمئات الأفغان البائسين وهم يحاولون عبثاً الالتحاق بالطائرات المغادرة تجنباً للعيش تحت حكم مقاتلي الحركة الأصوليّة المتشددة الذين سيطروا بسرعة قياسيّة على العاصمة كابل، وأجزاء واسعة من البلاد.
وقد جلبت تلك التطورات معها ذكريات وتساؤلات، ومخاوف وتمنيّات. إذ منذ نصف قرن تقريباً وأفغانستان تفتقد إلى السلام والاستقرار، تنتقل من احتلال إلى حرب، أو من حرب إلى احتلال، ومن تدخلات خارجيّة تورطت فيها قوى فاعلة عديدة - ومنها دول عظمى -، إلى انقلابات وحروب أهليّة داميّة وصراعات جهويّة وقبليّة لا تنتهي. وبينما ظنّ العالم أن تلك الصفحة قد طويت قبل عشرين عاماً عندما أسقطت القوات الأميركيّة حكم حركة «طالبان» بالقوّة ودعمت قيام حكومة بديلة شرعت بإعادة بناء مؤسسات الدّولة من جديد، وفرض نوع من الهدوء الأمني على أراضيها.
الانسحاب، وما ترتب عليه، أثار موجة من الاهتمام المتزايد بفهم جذور هذه الحالة المستعصية على الاستكانة، والسيّاق التاريخي الذي نشأت فيه، وطبيعة أدوار اللاعبين الرئيسيين الذين شاركوا في صياغتها لأغراض كما دوافع شتّى. والحقيقة، فقد أريق حبر كثير لتوثيق جوانب من سيرة هذا البلد وبعض الأحداث الفاصلة التي شهدها من زوايا نظر مختلفة، سواء في إطار مذكرات شخصيّة، أو متابعات صحافيّة أو وثائق رسميّة. على أن كثيراً مما نشر بالفعل كان نتاج أفراد مراقبين أو مشاركين جانبيين في الأحداث، أو عكس وجهة نظر جهة محددة دون غيرها. وقد تسبب ذلك، بتعرض مواقف المملكة العربيّة السعودية من أفغانستان عبر المراحل المتعاقبة إلى كثير من سوء الفهم وحتى التحامل الظالم أحياناً، لا سيّما في الغرب حيث تختلط المواقف الاستشراقيّة بالدّعاية السياسيّة، والتوجّس من الإسلام بقلّة المعرفة، والتبسيط المخلّ بسوء النيّة.
من هذه الزاوية تحديداً تأتي الأهميّة الفائقة لشهادة الأمير تركي الفيصل آل سعود عن الدّور السعودي الرسمي (والشعبيّ) الهام في المراحل المختلفة من تاريخ أفغانستان المعاصر التي ضمنّها كتابه المعنون «الملف الأفغاني» وصدر حديثاً بالإنجليزية في لندن (وطرحت ترجمة عربيّة كاملة له ضمن تظاهرة معرض الرياض للكتاب).
لقد كان الأمير تركي الفيصل، في إطار دوره رئيساً للاستخبارات السعودية في الفترة منذ أواخر عام 1977 حتى 2001 المكلّف الرئيسي بالملف الأفغاني، مما جعله على اطلاع مكثّف فوق المعتاد على تطورات الأحداث ومرجعياتها من لحظة التدخّل السوفياتي عام 1979 وحتى سقوط حكم «طالبان» في 2001. بل وكانت له مشاركة مباشرة في بعض من انعطافاتها الكثيرة. وهو بحكم منصبه الحسّاس طوّر علاقات عمل بالعديد من الشخصيّات المؤثرة في تلك الأحداث سواء من قيادات الدّول المعنيّة بالشأن الأفغاني أو من بين وجهاء الأفغان أنفسهم وعرفهم عن قرب، وكثيراً ما حملته الطائرة إلى كابل أو قندهار كما عواصم إقليميّة وعالميّة لمتابعة الاتصالات وجاهة مع المعنيين، مما يضع شهادته في موقع فريد لن يستغني عنه أي مهتم باستعادة تاريخ أفغانستان، أو راغب في بناء تصوّر دقيق عن تاريخ السعودية في موازاة تلك الحقبة من الزمن القريب بغضّ النظر عن دوافع تلك الاستعادة وانحيازات أصحابها، إذ أثبتت تجربة مشاركة المملكة في دعم الشعب الأفغاني بأنها أثرّت كثيراً في المجتمع السعودي أيضاً، وكانت لها مترتباتها السياسيّة والأمنيّة والاجتماعيّة والإداريّة.
يروي «الملف الأفغانيّ» حكاية ذلك البلد الجبلي الصعب خلال الربّع الأخير من القرن العشرين بداية من لحظة في منتصف سبعينيات القرن الماضي ترتبط بمرحلة الحرب الباردة بين العملاقين السوفياتي والأميركي وانطلاق مقاومة محليّة إسلاميّة الطابع ضد الحكم الشيوعي في كابل أثارت انتباه الولايات المتحدّة التي كانت تخشى من تمدد النفوذ الروسي جنوباً نحو المياه الدافئة ورأت أنها موضوعياً ستكون في صف تلك المقاومة، إلى مأساة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، التي أعادت خلط أوراق السياسة العالميّة، وفجرّت أنهاراً من الدّماء لا يزال بعضها جارياً إلى اليوم. ويصف الأمير في 15 فصلاً سيرة تلك المرحلة وتقلّب فصولها من الزّاوية السعودية بوصفه الشخصيّة الأكثر اطلاعاً على تفاصيل ذلك «الملف» الشائك، والمكلّف، بصفة رسميّة حينها كرئيس للاستخبارات السعودية، بإدارته، بعدما اتخذت المملكة قراراً بدعم «المجاهدين» الأفغان في معركتهم ضد التدّخل السوفياتي السافر في 1979. مروراً بحيثيّات ذلك الدّعم خلال عقد الثمانينيات، ثمّ سلسلة المبادرات المتتالية للتوسط من أجل تحقيق السلام بين فصائل «المجاهدين» إثر الانسحاب السوفياتي، ومن ثمّ صعود حركة «طالبان» إلى السّلطة وإيواءها ما صار يعرف بتنظيم القاعدة. على أن نص «الملف الأفغاني» وإن عني بمسائل سياسيّة وعسكريّة ولوجيستيّة غاية في التعقيد، فإنّه في الوقت ذاته يصوغها في نسيج متماسك في إطار قالب قصصي وشخصي مما يجعله قريباً للقارئ العادي لا للمتخصص فحسب.
في «الملفّ» يرسم الأمير من حصيلة قيادته للدور السعودي في أفغانستان صوراً نادرة شديدة الواقعيّة لعدد كبير من الشخصيّات التي ارتبط اسمها بتلك المرحلة وعرفها عن قرب بحكم تطور الأحداث، ومنهم زعماء فصائل «الجهاد» الأفغاني، وقادة «طالبان»، كما القيادات الباكستانيّة السياسيّة والأمنية، ومسؤولون سوفيات وأميركيون، وبالطبع دبلوماسيون وأمنيون سعوديون.
ومن الجلي أن الجهود السعودية لدعم تحرر الشعب الأفغاني وتحقيق السّلام في بلاده لم تكن بالمسألة الهينة على أي صعيد، ليس لتكاليفها الماليّة الباهظة فحسب، وإنما أيضاً لما جرّته من انعكاسات أمنيّة واجتماعيّة على الدّاخل السعودي. ووفق «الملفّ» الذي يتضمّن عدداً من وثائق ومراسلات الاستخبارات السعودية التي رفعت عنها السريّة فإن تعنّت زعماء الفصائل الأفغانيّة وصراعاتهم ذات المنطلقات الشخصيّة والقبائليّة والمناطقيّة قد أضرّ بقضيّة بلادهم وحرم الشعب الأفغاني من ثمار نضاله العنيد ضد السوفيات. ويروي الأمير في ثنايا الكتاب كيف بذل جهوداً للحصول على إذن ملكي استثنائي بفتح الكعبة المشرفة في مكة والسماح للزعماء الأفغان بدخولها سويّاً سعياً لتعميق فرص التوصّل إلى سلام بينهم بعد مباحثات صعبة في رحاب المدينة المقدّسة، حيث غلبتهم العاطفة وأقسموا ألا يتقاتلوا فيما بينهم مرة أخرى، ولكنّهم ما لبثوا بعد بضع ساعات معاً في الحافلة التي أقلتهم إلى المدينة المنورة حتى كادوا يتضاربون بالأيدي. كما يلقي الأمير بالضوء على الظروف التاريخيّة التي نمت فيها شجرة الإرهاب العدمي كنتاج عرضي للقضيّة الأفغانيّة بسبب قصر نظر أفراد غرّهم اعتقادهم الموهوم بأنّهم هزموا السوفيات، ودفعهم لتبني خيارات عنفيّة متطرفة بداية ضدّ مجتمعاتهم قبل أن يستيقظ العالم ذات صباح على مشهد تفجير برجي التجارة العالمي في نيويورك بطائرات مدنيّة كان أغلب خاطفيها من المواطنين السعوديين العائدين من أفغانستان.
«الملف الأفغاني» شهادة تاريخيّة ثمينة من أحد أهم المشاركين في صنع الحدث، وتجربة استثنائيّة نادرة لتسجيل خبرة مسؤول عربي أمني من مستوى رفيع، وقراءة سلسلة قريبة تزيل كثيراً من التشوش الذي شاب معظم ما كتب عن أفغانستان إلى الآن وبخاصة حول الدّور السعوديّ. وربما يستكمل الأمير شهادته يوماً بـ«ملف عراقي» عمّا خبره خلال عمله سفيراً للمملكة لدى لندن ثمّ واشنطن خلال الفترة من 2003 - 2007 التي توازت مع أحداث الغزو الأميركي للعراق وما تلاها.