محمد منير حالة عشق سمراء في وجدان العالم
“محمد منير: حالة عشق سمراء في وجدان العالم”، هكذا عنونت الدكتورة إيناس جلال الدين كتابها الذي تأخذنا عبر فصوله وصفحاته في رحلة إلى العوالم الإبداعية للمطرب المصري محمد منير، وتجول بنا بين أهم المحطات في مسيرته مع الغناء والموسيقى، وتُسافر بنا إلى بلاد النوبة، مسقط رأس الفنان وترسم لنا صورة لبيئتها وتاريخها، وتنقل إلينا جوانب من عاداتها وتقاليدها، وتُناقش كيف أسهمت هذه البيئة الخاصة بالنوبة والعادات والتقاليد التي تتفرّد بها تلك المنطقة بجنوب مصر، في التشكيل الفني والوجداني للفنان محمد منير.
الكتاب الذي صدر عن دار يسطرون بالقاهرة، جاءت مقدمته وفصوله الثلاثة بمثابة دراسة نقدية رصدت من خلالها المؤلفة أهم المحطات في رحلة المطرب المصري محمد منير مع الطرب، متناولة بالنقد والتحليل مفردات أغانيه وألحانه وما استخدمه من آلات موسيقية.
وتحدثنا الدكتورة إيناس جلال الدين، في مقدمة كتابها، عن واقع الأغنية المصرية بعد حرب أكتوبر عام 1973، وما تلاها من أحداث على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلا عما شهدته الساحة الفنية عامة والغنائية بصفة خاصة من غياب الأصوات التي كانت تمثل معالم الخارطة الغنائية المصرية والعربية، مشيرة إلى أن من يتأمل واقع الأغنية عقب هذه الفترة يدرك أنها كانت قد دخلت إلى مأزق كبير، وكان لا بد من محاولات جادة للخروج من هذا المأزق؛ لأن البديل معناه السقوط في هوة أغنية ما بعد الحروب الكبرى، على نحو ما حدث عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية.
ورأت أن الساحة الغنائية المصرية بعد حرب 1973 بدت مهيأة لأغنية بديلة، ولم يكن أحدٌ يستطيع التنبؤ بماهية هذه الأغنية، ولا بالشكل الذي يمكن أن تكون عليه، هل تسترد بعض ملامح الكلاسيكية وتسير عليها؟ أم تتجه إلى التواصل مع الأغنية الغربية بصورة من الصور؟ أم تعكس التشوهات التي شابَت الذائقة الثقافية بعد الارتباك الكبير في خارطة الطبقات والفئات الاجتماعية المصرية؟ وبحسب المؤلفة جاء محمد منير في هذه اللحظة الحرجة كحل سحري ومَخرج شديد المصرية وشديد العصرية في آن واحد من ذلك النفق المظلم الذي دخلت إليه أغنية ما بعد السبعينات.
ولفتت المؤلفة إلى أنه كانت هناك تجارب أخرى موازية في هذه المرحلة ذاتها، ربما تكون أبرزها تجربة علي الحجار التي تجلت مثلا في مجموعته “ما تصدقيش”، أو تجربة محمد الحلو، أو حتى هاني شاكر، إلا أن كل تجربةٍ من هذه التجارب كانت أكثر التصاقا بالأغنية الكلاسيكية بدرجات متفاوتة، أما تجربة محمد منير فقد قُدّر لها أن تمتزج بتجارب ملحنين وكُتاب جدد يبحثون هم أيضا عن أغنية مصرية بديلة، ويستظلون أحيانا بالتجارب الشعرية الكبرى، لاسيما تجربة فؤاد حداد التي كانت تمثل أغنية شديدة السطوع في مُغايرتها وفي أصالتها في الوقت ذاته.
وكان من المدهش -بحسب صفحات الكتاب- أن تتلاقى ألحان أحمد منيب وموسيقى فتحي خليل وصوت محمد منير على طريق هذه الصيغة الغنائية المتفردة.
وتشير صفحات الكتاب كذلك إلى أن محمد منير جاء مُحملا بتلك الخصوصية الشديدة التي منحته إياها جذوره النوبية النابضة بكل تفردها الفني والاجتماعي، وأن أغنية منير كانت هي الأعلى صوتا في ساحة الغناء البديل، فضلا عن قدرتها المذهلة على التوافق مع ذوق الجيل، وتلبية رغبته الجامحة في امتلاك أغنية تعبر عنه بطريقة جديدة تصله بجذوره المصرية وتمد الروابط بينه وبين غناء العالم.
وتذهب بنا الدكتورة إيناس جلال الدين إلى النوبة، التي منحت المطرب محمد منير وتجربته كثيرا من الخصوصية والتميز، حيث تطلعنا من خلال صفحات كتابها على ملامح تلك البيئة النوبية وخصوصيتها الفريدة، ثم تنتقل بعد ذلك إلى تفصيل ملامح الغناء المصري البديل بصفة عامة، قبل أن تتوقف بالتحليل والرصد أمام تجربة محمد منير على المستويات اللحنية والشعرية والغنائية المختلفة.
النوبة، مسقط رأس المطرب محمد منير، كانت هي الطريق الرئيسي إلى أفريقيا وفنونها، حينما كان إنسان العصر الحجري يأوي إلى الغابات في أوروبا، وكانت في النوبة سلسلة من الحصون والمراكز التجارية حين ظهرت الجماعات البدائية في غربي أوروبا.
ويُحدثنا الكتاب كذلك عن العادات والتقاليد النوبية، بما فيها الكرم والضيافة، حيث حتمت ظروف المنطقة قديما وحديثا الاستعداد التام والتأهب لاستقبال الضيوف، وإعداد إقامات كاملة لهم طوال مدة إقامتهم، إذ يندر أن يكون بيت في النوبة دون حجرة كبيرة جدا على أطراف البيت، وهي مخصصة لاستقبال الضيوف في المناسبات، ويطلق عليها اسم المضيفة أو الديوان أو السبيل، وكرم الضيافة النوبي مشهور ومعروف يلمسه ويحسه كل من زار النوبة.
ونتعرف من الكتاب على أن الأغنية الشعبية بكل جوانبها هي مرآة للثقافة والفن النوبي، كأحد ألوان الفلكلور، وتعتبر من التراث القديم الأصيل، وأن النوبي فنان بطبعه، شغوف بالزخرفة والنقش، شديد الميل إلى سماع الموسيقى والتأثر بها.
وللنوبة تراث هائل من الفن الغنائي والموسيقي، ويُعد من أهم عناصر الفلكلور في الشرق الأوسط. وللفن والغناء في النوبة تاريخ طويل فالأغاني في النوبة تساير مطالب الحياة الاجتماعية: الأغنيات العاطفية، وأغاني العمل، وأغاني المناسبات، والأغاني الدينية، والأغاني القومية.
ونتعرف من صفحات الكتاب على أن المطرب محمد منير يحمل اسما مُركبا، فاسم أبيه محمد، واسم جده أبو اليزيد، وكان والده ينتمي إلى الطبقة الوسطى، وكان أيضا من السياسيين السعديين (حزب الوفد). قضى المطرب فترة صباه وتلقى تعليمه المبكر في القرية، قبل أن ينتقل إلى القاهرة للدراسة الجامعية، وبالرغم من حب النوبيين للموسيقى والغناء إلا أن امتهانه الغناء كان يضع عائلته في وضع حرج.
وينقل لنا الكتاب عن محمد منير قوله “إن أهم ما تعلمه من والده هو الإصرار، وعدم التنازل عن الحق، وأن يصل إلى الشيء الذي يريده بالعلم والمعرفة.” وقوله كذلك إن المطربين النوبيين كانوا دائما على صلة بالمجتمع المصري، وأحداثه الدائمة، فنرى عبدالله باخان وسيد جابر يقدمان أغنية “سو يا سو” سنة 1919 لاعتراضهما على الاحتلال، وما فعله الاستعمار الإنجليزي بسعد زغلول.
◙ دراسة نقدية رصدت أهم المحطات في رحلة المطرب متناولة بالنقد والتحليل مفردات أغانيه وألحانه وما استخدمه من آلات موسيقية
وفي الكتاب الذي اختتمته بتقديم رؤيتها النقدية وما توصلت إليه من نتائج خلال دراستها لما قدمه المطرب محمد منير من أغنيات وما صاحب تلك الأغنيات من ألحان، رأت المؤلفة أن مقومات النجاح في غناء محمد منير عديدة، أبرزها المزج بين الألحان ذات الطابع النوبي وأساليب الموسيقات المعاصرة، وحرصه على استخدام الأساليب الهارمونية، والدمج بين الهارمونية التقليدية (التآلفات الثلاثية القائمة على مساحة الثالثة) والأسلوب الهارموني الحديث (تراكم الرابعات)، وهو ما يعد إلى حد كبير أحد أشكال الدمج بين الموسيقات التقليدية وأحد أشكال الموسيقات المعاصرة.
وأوضحت الكاتبة أن كلمات أغلب الأغاني جاءت محملة بمفردات نوبية خالصة وتحكي كلها عن البيئة النوبية والمجتمع النوبي وخصائصه، من حيث حب الغناء والسهر والسمر وعشق النوبيين للزينة والحلي واعتزازهم الدائم بتكوينهم ولون بشرتهم.
واعتبرت المؤلفة أن تمسك محمد منير بجذوره من حيث الكلمات والألحان وأساليب الغناء، من أهم أسباب تحقيقه للنجاح العالمي الذي وصل إليه. ونوهت إلى أن نجاحه على الصعيد المحلي والعالمي جاء بسبب حرصه على اختيار مفردات أغانيه من وحي البيئة النوبية، فجاءت جديدة في معانيها وألحانها وأسلوب أدائها على أذن المستمع المصري والعربي فحققت النجاح الذي تستحقه.
ولفتت إلى تفوق النص الشعري في بعض الأغنيات على اللحن الذي يأتي في صورة بسيطة، ولجوء محمد منير إلى عمل معالجة موسيقية تستخدم أساليب موسيقية معاصرة أو قديمة تمثل الهوية الشعبية النوبية لإحداث التوازن المناسب بين عنصري الأغنية، الكلمات واللحن، ثم يدمجهما معا في غنائه، مثل ما قام به في أغنية “سو يا سو”.
وبيّنت المؤلفة كذلك أن المطرب محمد منير في جميع أعماله يغني دائما للوطن سواء وطنه الكبير مصر أو الصغير النوبة، وأنه يستخدم دائما جميع الكلمات والمفردات التي تؤكد على هويته النوبية، وأن كلمات أغانيه جعلت النوبة وأهلها وبيئتها أكثر قُربا من وجدان بقية الشعب المصري.
يُذكر أن الدكتورة إيناس جلال الدين تشغل منصب مدير عام للبرامج الموسيقية في البرنامج الثقافي بالإذاعة المصرية، وحاصلة على درجة الدكتوراه عن رسالة عنوانها “الجذور النوبية في الغناء المصري”، ودرجة الماجستير عن رسالة عنوانها “السماء المميزة لموسيقى الفيلم عند فؤاد الظاهر وعلي إسماعيل”، وهي تعد وتُقدم “صالون مقامات” الذي يقام بالتعاون بين إذاعة البرنامج الثقافي وبيت الغناء العربي بصندوق التنمية الثقافية، بجانب عضويتها في اللجنة العلمية لمؤتمر الموسيقى العربية على مدار عشر سنوات متتالية.