صراع جيوسياسي على أنقاض النفوذ الغربي

وكالة أنباء حضرموت

تحولات جذرية شهدها الساحل الأفريقي في 2024، بعد عقود من الهيمنة الغربية، مع انسحاب القوات الفرنسية والأمريكية، وتصاعد النفوذ الروسي.

هذا التحول الاستراتيجي، الذي أعقب سلسلة من الانقلابات العسكرية، أثار تساؤلات حول مستقبل المنطقة ودور القوى الكبرى فيها، وهل تمكنت روسيا من سد الفراغ الذي خلفه الغرب؟ وهل حققت أهدافها في تعزيز نفوذها وتأمين مصالحها؟.

وحول أبعاد هذا الصراع الجيوسياسي، والآثار المترتبة على هذه التحولات على المستويين الإقليمي والدولي، تباينت آراء خبراء تحدثت إليهم «العين الإخبارية» بين من يرى أن روسيا تلبي احتياجات الدول الساحلية، خاصة فيما يتعلق بتوفير التدريب العسكري والأسلحة، مما يساعدها على مواجهة التحديات الأمنية المتزايدة، إضافة إلى تمتّعها بالخبرة الكافية في مكافحة الإرهاب، وبين من يرون التدخل الروسي يؤدي إلى تعقيد الأزمات القائمة، وزيادة الصراعات الإقليمية، مع تزايد نفوذ بعض القوى الإقليمية الأخرى، ما يخلق توازنًا جديدًا للقوى قد لا يكون في صالح دول الساحل.

انقلابات عسكرية
وتعيش دول المثلث الساحلي في أفريقيا (مالي وبوركينا فاسو والنيجر) حالة من عدم الاستقرار الأمني، بعد أكثر من عام عزمت فيه الدول الثلاث على مجابهة التحديات والتغلب عليها بعد خروج القوات الأمريكية والفرنسية من أراضيها، وإحلال قوات روسية بديلة عنها.

الساحل الأفريقي يواجه تحديات مستقبلية

وكانت سلسلة انسحاب القوات الفرنسية والأمريكية من الدول الثلاث بدأت بعد انقلابات عسكرية حدثت بالبلاد، بدأتها مالي في مايو/أيار 2021، وتلتها بوركينا فاسو في يناير/كانون الثاني 2022، ثم النيجر في يوليو/تموز 2023.

وأصرت السلطات العسكرية الجديدة في دول المثلث الساحلي على إخراج القوات الفرنسية والأمريكية من أراضيها، مستندة في ذلك على رفض شعبي كبير لهذه القوات.

انسحاب أمريكا
وأتى إعلان الانسحاب الأمريكي من آخر القواعد العسكرية بالنيجر، بعد توالي انسحاب القوات الفرنسية من النيجر ومالي وبوركينا فاسو، في حين ترسّخت هناك، أقدام مجموعة فاغنر الروسية التي تحول  اسمها إلى "الفيلق الأفريقي|، وأعلنت موسكو دعمها الفني والعسكري بعد طلب الحكومات العسكرية للبلدان الثلاث.

وكان الجيش الأمريكي قد أعلن في أغسطس/آب 2024 إتمام انسحاب القوات الأمريكية من قاعدة أغاديز في النيجر.

وحسب بيان القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا "أفريكوم"، فإن الانسحاب شمل الأفراد والعتاد من القاعدة الجوية 201 في أغاديز، وهي من أكبر قواعد الطائرات المسيرة الأمريكية في أفريقيا، وكانت تعزز القدرات الاستخباراتية والمراقبة لمنطقة الساحل، ووُجدت القوات الأمريكية هناك منذ عام 2013، تحت لافتة محاربة الإرهاب.

خروج فرنسا
هذا الانسحاب أتى بعد طلب السلطات في نيامي مارس/آذار الماضي، مغادرة القوات الأمريكية، بعد توتر مع واشنطن بشأن التوجهات الخارجية لهذه السلطات التي تولت الحكم، عقب انقلاب عسكري وقع بالبلاد يوليو/تموز 2023.

وجاء هذا الانسحاب كذلك بعد 8 أشهر من الانسحاب الفرنسي من النيجر، إذ غادرت القوات الفرنسية في ديسمبر/كانون الأول 2023، بعد أزمة حادة مع السلطات الجديدة.

وقبل ذلك بعام ونصف العام، اضطرت فرنسا لسحب قواتها من مالي في أغسطس/آب 2022، بناء على طلب السلطات، ومطلع عام 2023، أعلنت باريس سحب قواتها من بوركينا فاسو، بناء على طلب سلطات البلاد.

إحلال روسيا
وبعد أكثر من عام من انسحاب القوات الفرنسية والأمريكية من دول المثلث الساحلي، توطدت فيها العلاقات بين الدول الثلاث وروسيا، لمجابهة التحديات الأمنية التي تعيشها دول الساحل الأفريقي، يأتى التساؤل هل استطاعت روسيا في هذا العام 2024 أن تسد الفراغ الذي تركته أمريكا وفرنسا في الدول الثلاث؟، وهل استسلمت كل من باريس وواشنطن لإحلال موسكو مكانهما في بلدان استمرت السيطرة عليها لعقود طويلة، وهل تأكدت الدول الثلاث من أن روسيا كانت البديل القادر على المساعدة في بسط الأمن والاستقرار.

هل نجحت روسيا أمنيا؟
من جانبه، يرى الدكتور عبد المهيمن محمد الأمين مدير جامعة الميغلي الدولية الأهلية بالنيجر أن "روسيا حاولت أن تسد الفراغ الذي تركته أمريكا وفرنسا".

وقال الأمين لـ "العين الإخبارية": إنه "نستطيع أن نقول إن روسيا سدت هذا الفراغ في الجانب الأمني، مستدركا في الوقت نفسه، وإن كانت الدول الثلاث مالي وبوركينافاسو والنيجر لم تستطع حتى الآن القضاء على النشاط الإرهابي الذي يتحرك على حدودها الثلاث فيما يعرف بـ "مثلث الموت".

وأضاف: "ومع أنها لم تستطع القضاء على الإرهاب كلية، لكننا نستطيع أن نقول أن روسيا قد نجحت كثيرا بالتعاون مع الجيوش الوطنية في الدول الثلاث في أن تحل محل كل من أمريكا وفرنسا".

وتابع قائلا إنه: "في الجوانب الأخرى الاقتصادية والإنسانية والصحية وغيرها لم تظهر روسيا كقوة في هذه الجوانب"، مشيرا إلى أن "أمريكا وفرنسا عبر منظماتهما في السابق كان لهما وجود قوي جدا في دعم هذه الجوانب".

وأعرب عن اعتقاده بأن "روسيا إذا أرادت أن تكون خيارا بديلا للدول الثلاث يجب أن تنشط في هذه الجوانب"، وقال إن "هذه الدول تعاني من الكثير من المشكلات في هذه الجوانب، ولا تستطيع الدول الثلاث أن تسدها بامكاناتها الخاصة، وتحتاج إلى دعم خارجي".

تنامي المشاعر المعادية
وأثبتت دراسات أجريت على الأوضاع في دول الساحل الأفريقي أن إخراج أمريكا وفرنسا من أراضيها، يعكس تنامي المشاعر المعادية للغرب وما يرتبط بها من تحولات استراتيجية.

وكشفت هذه الدراسات عن أن الرفض الجديد الخاص بالوجود العسكري الأمريكي والفرنسي في منطقة الساحل مرده أن الدولتين لم تتقنا لعبة التعامل مع الأنظمة في المنطقة، فلم تحل الديمقراطية بالقدر الكافي، ولم توفر الغطاء اللازم للمجالس العسكرية الحاكمة، وهو ما جعلها في نهاية المطاف تفقد كل شيء.

مرحلة ترتيب الأوراق
وبحسب الخبير النيجري، فإنه «من المبكر الحكم على التعاون الروسي مع البلدان الثلاث»، معتبرا أن القضية ليست روسيا فقط وإنما هناك قوى أخرى مع روسيا في هذا الفراغ مثل الصين وتركيا وإيران وغيرها، لافتا إلى أن أمريكا لا تزال تسعى ولن تفقد علاقاتها الكلية مع الدول الثلاث.

واستبعد الخبير النيجري "استسلام فرنسا وأمريكا والتخلي عن هذه الإرث في الدول الثلاث"، وقال إن "مالي وبوركينافاسو والنيجر، دول لها أهمية كبرى وبها الكثير من الموارد التي لا يمكن أن يتم التخلي عنها بسهولة"، مضيفا أن "فرنسا وأمريكا بصدد ترتيب أوراقهما ومحاولة البحث عن منفذ تدخل منه لتعيد علاقتها مع هذه الدول"، مشيرا إلى الكونفيدرالية التي كونتها الدول الثلاث.

وأعرب عن أمله في أن تنجح هذه الكونفيدرالية، وقال إن "دولنا تعيش الآن جرح التعامل مع فرنسا وأمريكا، ومدى استفادتنا من هذا التعامل الذي يغضب الشعوب في بلداننا"، معتبرا أنه جرح عميق جدا.

وقال "إننا نعيد ترتيباتنا وعلاقتنا على النحو الذي يقوم على الاحترام وتبادل المنافع والسيادة الوطنية".

محاولات جادة
من جهته، قال الدكتور محمد تورشين الباحث السوداني في الشؤون الأفريقية إن "الدول الثلاث استعانت بشكل كبير بروسيا وكذلك تركيا لملء الفراغ الأمني لأمريكا وفرنسا وكذلك القوات الأممية التي كانت منتشرة في مالي".

وقال تورشين لـ " العين الإخبارية" إن "محاولات سد الفراغ كانت جادة وحثيثة، لكن لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نتحدث بأن روسيا استطاعت أن تملأ الفراغ"، مضيفا أنه "لا يمكن أن نقول نعم أولا، وفق المعطيات الأمنية والسياسية إبان الوجود الفرنسي والأمريكي والأممي كانت الأوضاع مستقرة".

وأشار إلى أن "اتفاقية الجزائر الموقعة بين مجموعة الطوارق والأزواد وبين الحكومة في باماكو بمالي كانت قائمة، وقال لكن عندما أعادت الحكومة المركزية في مالي النظر في هذه الاتفاقية بل ألغتها، ساهم ذلك في وتيرة العمليات العسكرية والهجمات ضد الجيش المالي، مما أدخل الجيش المالي في مساحات وحرب لم يكن في حاجة لها، مضيفا أن العمليات في الماضي ابان الوجود الفرنسي كانت محصورة فقط في مواجهة الجماعات الإرهابية.

استغلال وسائل التواصل
ويبدو أن روسيا تتمتع حاليا بنفوذ قوي، وتأثير ملحوظ على الخيال الشعبي للسكان في الساحل، وبتكلفة منخفضة نسبيا، عبر استغلال وسائل التواصل الاجتماعي في حملات إعلامية فعالة (ضد الوجود الأمريكي والفرنسي).

ورغم أنه من حق أي دولة تغيير حلفائها، لكن اختيار روسيا كحليف يبدو مشكوكا فيه، نظرا للدوافع الروسية، والافتقار إلى مراعاة مصالح السكان، في حين يمكن التكهن بالمكاسب المحتملة لروسيا، وفق الخبير.

إلا أنه من الواضح أن الفائزين الحقيقيين هم الجماعات التي تستفيد من هذا الوضع (جماعات داعش وفروع القاعدة الإرهابية)، كما يبدو أن لروسيا دوافع تتجاوز التوسع الإقليمي، ومنها زعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي، عبر تعزيز الهجرة من غرب أفريقيا إلى شواطئه، كما تشير الأحداث إلى أن النفوذ الغربي في الساحل الأفريقي يظل مؤثرا، حتى وإن تراجع بشكل رسمي.