الترجي التونسي.. من المحلية إلى الأفريقية إلى العالمية
“تونس استثناء” كلمة تتردّد على الألسنة والمسامع ويتداولها جمهور السياسة كما الرياضة على حد السواء، ويمكن القول أيضا إن “الترجي الرياضي استثناء”. هكذا تقول لغة كرة القدم وهكذا ينطق مهووسوها في تونس تغنّيا بناديهم الترجي الرياضي الذي يكتب التاريخ مرة أخرى ويأبى إلا أن يصطف دائما ضمن كبار الأندية في العالم.
الترجي أو “المكشخة” أو “غول أفريقيا” أو “فريق باب سويقة” أو “شيخ الأندية التونسية” كلها مسميات لاسم واحد هو الأحمر والأصفر أو الدم والذهب مثلما يتغنى جمهور واسع من التونسيين بناديهم العريق الذي تربى على ثقافة صنع الملاحم والتتويج الأفريقي.
ككل البلدان العربية والأفريقية يعتبر الترجي التونسي قصة استثنائية في بلده، قصة يكتبها جيل وراء جيل طيلة 105 أعوام حبّا في اللعبة الشعبية وسيرا وراء دروبها ومغامراتها التي لا تنتهي.
وحفظا للتاريخ وما يكتنزه بسجلاته وللماضي البعيد بما يزخر به من مدونات، فإن النادي التونسي الذي تأسس عام 1919 وتداولت على رئاسته وجوه رياضية وسياسية بارزة يستأنس بتجارب الكبار لجهة الانضباط الإداري وحسن التسيير، والأهم من ذلك الاستمرارية بين الأجيال بسلاسة وتطويع خدمة لمصلحة النادي أولا وأخيرا.
تاريخ حافل
من يبحث في سجلات هذا النادي سيعثر على عصارة تاريخ طويل من البناء والعطاء والتتويج قلّ نذيره بين الأندية التونسية وحتى العربية يكتبها أبناء الترجي ممن تفننوا في صناعة مجد هذا
الفريق وأوصلوه إلى العالمية بعد الأفريقية والمحلية. 32 لقب بطولة الدوري التونسي و15 لقب كأس محلي و6 ألقاب كأس السوبر التونسي وأربعة ألقاب كأس دوري أبطال أفريقيا، هذا إضافة إلى لقب تقريبا في كل المسابقات التي لعبها الترجي بمسمياتها القديمة والحديثة.
التاريخ حافظ للأمانات والتاريخ في ذاكرته لا يختزن إلا من سجلت يداه وكتب اسمه بأحرف من ذهب ونادي الترجي التونسي يعمل دائما على ترسيخ هذه المقاربة بين أبنائه في صنوف شتى من الرياضات سواء الفردية منها أو الجماعية. لكن تبقى كرة القدم هي صانعة الفرجة والملهمة لجماهير واسعة من محبي الفريق يتوزعون على كل شبر من التراب التونسي.
الترجي هو من ربّى هذه الأجيال على حب النادي أولا وعلى متابعته بشغف وعوّد أجيالا وراء أجيال على زرع هذه الثقافة حتى في النشء.
تتجسّد هذه المشهدية باستمرار في الشارع التونسي عندما يخوض الفريق مباراة سواء في الدوري المحلي، وخصوصا إذا كانت مباراة ديربي أمام الغريم التقليدي النادي الأفريقي، فما بالك لو كانت مسابقة دوري أبطال أفريقيا وأمام أحد الأندية المصرية سواء منها الأهلي أو الزمالك والمغربية سواء منها الرجاء أو الوداد البيضاوي.
كرة القدم دروس لمن يريد تعلم فنّ هذه اللعبة ويريد بلوغ القمة والترجي ككل ناد يريد أن يمارس هذه اللعبة بفن عبر تاريخه الطويل. عبر مراحل وسنوات خلت يُقال هذا يليق بالترجي وهذا لا، هذه الصفقة حسمها الترجي وتلك لا إضافة تقدمها للنادي العريق. يعني بعصارة الكلام من يرتدي قميص هذا النادي فهو أهل لأن يبلغ القمة ويعلو شأنه الكروي بين الأمم.
أجيال مرت على الحديقة “ب”، المقر الرسمي للنادي وحيث يخوض الترجي تدريباته اليومية، أجيال كتبت عاليا اسم الترجي ودونها سجله، من عبدالمجيد التلمساني إلى عبدالحميد الكنزاري إلى طارق ذياب إلى عبدالحميد الهرقال إلى توفيق الهيشري ومحمد علي المحجوبي ونبيل معلول وخالد بن يحيى وخالد بدرة وعيادي الحمروني والقائمة طويلة من الأسماء التي تتردد في عالم اللعبة الشعبية اليوم.
فترة ذهبية
بخلاف أسماء اللاعبين الكبار والنجوم الذين لا يزالون يسجلون حضورهم إلى اليوم في عالم التدريب والإشراف الفني سواء كمسيرين أو مساعدين مع أندية تونسية أو أجنبية، فقد عرف الترجي قمة مجده في عهد رئيسه السابق والرئيس الشرفي الحالي سليم شيبوب.
يعرف عن شيبوب كونه صهر الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وتولى الإشراف على النادي في العام (1989 إلى غاية 2004) أي بعد عامين تقريبا على تولي بن علي رئاسة تونس. قدم شيبوب آنذاك وعودا كبيرة لجماهير الأصفر والأحمر بالحصول على الألقاب وكان ذا قدرة ونفوذ كبيرين سواء في الاتحاد الأفريقي لكرة القدم “الكاف” أو الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا”.
تنحصر الفترة الذهبية وموسم الحصاد لفريق باب سويقة مع شيبوب في تسعينات القرن الماضي وحين حقق أحد وعوده للجماهير الترجية بمضاعفة الفترة الرئاسية من موسم إلى آخر، الأمر الذي زاد من شعبيته. في العام 1993 حصل الفريق على العديد من الألقاب الدولية والمحلية، كما فاز بلقبه القاري الأول كأس العرب للأندية الأبطال ليصبح أول فريق تونسي يتوج بهذا اللقب (1993).
في العام التالي (1994) فاز الترجي بأول كأس أبطال أفريقيا على حساب الزمالك المصري وكان التألق حينها لعدة وجوه بارزة يذكرها التاريخ في سجلاته ولا تزال العديد من البرامج الرياضية التونسية تعيد تدويرها مع كل تألق يحققه الفريق.
منْ من العائلة الترجية لا يذكر الهادي بالرخيصة (قلب الأسد) والمكنى بـ”بلها”، من من الشغوفين بسحر “المكشخة” تغيب عنه صورة ذلك الشاب الذي سطع نجمه بقميص الترجي والمنتخب التونسي في تلك السنوات. لاعب موهوب ونجم قل وجوده وكاريزما وفنيات على المستطيل الأخضر والأهم من ذلك القيمة الأخلاقية التي كان يتحلى بها الهادي رحمه الله.
ولأنه كرس حياته خدمة لفريق الدم والذهب فقد شاءت المنية أن تكون على أرض الملعب يوم الرابع من يناير 1997 إثر نوبة قلبية وكان ذلك خلال مباراة ودية خاضها الترجي أمام أولمبيك ليون الفرنسي. قطار الترجي يأبى التوقف عن السير وراء التتويجات والألقاب وككل الأندية العربية والأفريقية فقد مرّ الفريق بفترات شدائد لكنه أبدا لم ينحن أمام الأزمات وسرعان ما يستعيد عافيته وهذا مرده ثبات الإدارة واستمراريتها.
تتأكد هذه الرؤية تقريبا مع كل الرؤساء الذين تداولوا على رئاسة الفريق ومنهم حمدي المؤدب الرئيس الحالي للنادي (2007 – 2024). يركز المؤدب على الجوانب الاقتصادية للنادي ويستثمر أمواله بشكل مثالي في التعاقدات التي يبرمها الفريق كما يؤمن بنظرية توظيف اللاعبين وهو ما أهله ليحقق نجاحات كبيرة لا يزال نادي الترجي يجني ثمارها إلى اليوم.
يعتبر موسم 2010 – 2011 استثناء بالنسبة إلى المؤدب على رأس الإدارة الترجية حين حقق الفريق ثلاثية الدوري المحلي والكأس ودوري أبطال أفريقيا وكان ذلك بوجود ثلة من النجوم أبرزهم الموهوب يوسف المساكني لاعب العربي القطري اليوم.
استثمار متقن
جيل جديد يُبعث يخلف جيلا آخر رحل، من شكري الواعر وخالد بدرة ورياض الجعايدي وسيراج الدين الشيحي وطارق ثابت وحسان القابسي وعبدالقادر بلحسن إلى يوسف المساكني وخالد القربي وأسامة الدراجي وخليل شمام وغيرهم الكثير من اليافعين الذين استثمر فيهم الترجي بحسن التدبير والإدارة الفنية الكفؤة ليكون الإقلاع طيلة مواسم متتالية. هكذا هي رحلة الترجي وهكذا هو التفوق الذي يفرضه الفريق سواء محليا أو قاريا.
ربما لا يتسع المجال لبعض التفصيلات التي كانت وراء صناعة مجد هذا النادي وتركيزه على بلوغ القمة دائما، لكن كل الشهادات تجمع على أن فريق باب سويقة لا يستطيع إلا أن يكون ضمن هذه المقاربة.
اليوم هناك جيل جديد يكتب هذه الملحمة وهناك أيضا مدرب راهنت عليه إدارة الترجي ليكون وراء هذه النقلة النوعية للفريق بعد تراجعه في المواسم الأخيرة قاريا. بعد مواسم من النجاح مع ثلة من اللاعبين حقق خلالها الفريق لقبين متتالين لدوري أبطال أفريقيا وحين شعرت إدارة الفريق بالخطر كان لا بد من التفكير في مدرب أجنبي.
فعلا فقد حسم المؤدب أمر المدرب بعد تجربة قصيرة تولى خلالها المدير الرياضي الحالي وابن الترجي طارق ثابت تدريب الفريق، وكان الاتجاه نحو المدرسة البرتغالية ممثلة في المدير الفني ميغيل كاردوزو الذي منذ قدومه إلى حديقة الرياضة “ب” أظهر قدرة كبيرة على تحويل وجه الفريق توجها بالتأهل أولا إلى نهائي دوري أبطال أفريقيا وثانيا بضمان مقعد في كأس العالم للأندية في نسختها الأولى تحت إشراف “فيفا” والتي ستقام عام 2025 بالولايات المتحدة.
منذ قدومه أدخل المدرب البرتغالي خلطة سحرية على الفريق تمكن بموجبها من ترتيب الأوضاع وإعادة وجه الفريق الحقيقي بعدما شكك كثيرون في قدرة الترجي على العودة إلى الساحة الأفريقية كمنافس.
أيضا ما يحسب لهذا الفني البرتغالي، وكامل الفريق الذي يشتغل معه، أنه فرض سيطرته على المجموعة التي بحوزته واختار فترة التوقف خلال مسابقة أمم أفريقيا بكوت ديفوار لتجهيز الفريق إلى هكذا استحقاق يخوضه الترجي اليوم سواء في مسابقة دوري الأبطال أو البطولة المحلية أو مسابقة الكأس.
ينافس الترجي هذا الموسم على ثلاث جبهات، الدوري والكأس المحليين، ودوري أبطال أفريقيا قاريا وسيكون الفريق مطالبا بتوزيع جهوده ككل المواسم التي سبقت من أجل رفد خزائنه بأحدها. يدرك كاردوزو جيدا هذه المسألة ويعمل جاهدا من أجل تحقيق آمال جمهور “المكشخة” أولا ولتجربته الشخصية ثانيا كونه مرّ بفترة تدريبية صعبة في المواسم الأخيرة من مسيرته.
الترجي التونسي اسم كبير وقصة يقرؤها الكبير قبل الصغير في تونس، فقط كل ما على المبتدئ سوى تصفح كتاب هذا النادي والتركيز جيدا مع الوجوه البارزة التي مرت على المنصات التي اعتلاها بالتتويج وحسم الألقاب محليا وقاريا، وها هو باب أمل جديد يكتب لهذا النادي بأن يكون ممثلا لتونس والعرب في أعتى بطولة عالمية للأندية في عام 2025.