تمرد الميليشيات يعرقل مساعي طهران وأنقرة لإثبات نفوذهما.
تركيا وإيران تكتشفان صعوبة القوة الناعمة
تكتسب أذرع إيران وأنقرة عاما تلو الآخر قوة ونفوذا يجعلانها تتمرد في أحيان كثيرة، وترسم لنفسها توجهات تتعارض مع الاستراتيجيات المحددة لها، فتحدث للبلدين متاعب ونكسات غير متوقعة تضاف إلى أزماتهما المحليّة في عالم مليء بالمفاجآت الاقتصادية والسياسية.
ويقول المحلل السياسي والخبير في قضايا الشرق الأوسط جيمس دورسي إنه من المرجح أن يفكّر القادة الإيرانيون في أن الوقت يتغيّر فيما يتعلّق بخطواتهم التالية في العراق وكردستان العراق ولبنان وأذربيجان.
وينطبق نفس الشيء على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي برز كمدافع شرس عن القضايا الإسلامية ما لم يكن لذلك ثمن اقتصادي كما هو الحال مع القمع الوحشي الذي تسلّطه الصين على المسلمين الأتراك. لكن صورته تشوهت بسبب مزاعم التراخي في مكافحة غسيل الأموال وسوء الإدارة الاقتصادية.
وتأتي الانتكاسات في وقت تتراجع فيه شعبية أردوغان في استطلاعات الرأي. وقد أمر خلال الأيام الماضية بطرد سفراء الولايات المتحدة وكندا وفرنسا وفنلندا والدنمارك وألمانيا وهولندا ونيوزيلندا والنرويج والسويد لدعوتهم إلى إطلاق سراح الناشط الخيري والحقوقي عثمان كافالا تماشيا مع قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
يرى دورسي أن تركيا وإيران لا تستطيعان تحمل النكسات التي غالبا ما تكون نتيجة الغطرسة. فلكليهما أهداف جيوسياسية ودبلوماسية واقتصادية أكبر، وهما تتنافسان مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ونهضة العلماء الإندونيسية على القوة الناعمة الدينية، إن لم يكن قيادة العالم الإسلامي.
وتكتسب هذه المنافسة أهمية إضافية في عالم يسعى فيه خصوم الشرق الأوسط إلى إدارة خلافاتهم بدلا من حلها من خلال التركيز على الاقتصاد والتجارة والمعارك الناعمة، بدلا من معارك القوة الصلبة والوكالة.
وفي إحدى الحوادث التي وقعت مؤخرا عارض هدايت نور وحيد نائب رئيس البرلمان الإندونيسي أن يُطلق على شارع في جاكرتا اسم مصطفى كمال أتاتورك، الجنرال الذي تحول إلى رجل دولة واقتطع تركيا الحديثة من أنقاض الإمبراطورية العثمانية. واقترح وحيد أن من الأنسب إحياء ذكرى السلاطين العثمانيين محمد الفاتح أو سليمان القانوني أو العالم الإسلامي من القرن الرابع عشر والصوفي والشاعر جلال الدين الرومي.
وينتمي وحيد إلى حزب العدالة والرفاهية المرتبط بالإخوان المسلمين وعضو مجلس إدارة رابطة العالم الإسلامي التي تديرها السعودية، وهي أحد المروجين الرئيسيين للقوة الدينية الناعمة في المملكة.
والأهم من ذلك أن نزاهة تركيا كدولة تكافح بقوة تمويل العنف السياسي وغسيل الأموال أصبحت موضع تساؤل لدى مجموعة العمل المالي (فاتف)، وهي هيئة رقابية دولية، وتواجه قضية محكمة محتملة في الولايات المتحدة يمكن أن تزيد من تشويه صورة أردوغان. كما قضت محكمة استئناف أميركية الجمعة بجواز محاكمة بنك خلق التركي الذي تملكه الدولة بتهمة مساعدة إيران في التهرب من العقوبات الأميركية.
واتهم ممثلو الادعاء بنك خلق بتحويل عائدات النفط إلى ذهب ثم إلى نقد لصالح إيران وتوثيق شحنات غذائية مزيفة لتبرير تحويل عائدات النفط. كما قالوا إن البنك ساعد إيران سرا في تحويل 20 مليار دولار من الأموال المقيدة، مع غسيل ما لا يقل عن مليار دولار من خلال النظام المالي الأميركي.
وزعم بنك خلق بأنه غير مذنب وجادل بأنه محصن من الملاحقة القضائية بموجب قانون حصانات السيادة الأجنبية الفيدرالي لأنه تابع لتركيا التي تتمتع بحصانة بموجب هذا القانون. وأدت القضية إلى تعقيد العلاقات الأميركية – التركية، حيث دعم أردوغان براءة بنك خلق في مذكرة عام 2018 إلى الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب.
وضعت مجموعة العمل المالي تركيا على قائمتها الرمادية الأسبوع الماضي مع دول مثل باكستان وسوريا وجنوب السودان واليمن التي فشلت في الامتثال لمعايير المجموعة. وحذر صندوق النقد الدولي في وقت سابق من هذا العام من أن القائمة الرمادية ستؤثر على قدرة الدولة على الاقتراض من الأسواق الدولية، وستكلفها ما يعادل 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، فضلا عن انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر.
وكانت إدارة أردوغان للاقتصاد متوترة مع طرد ثلاثة من صانعي السياسة في البنك المركزي مؤخرا، وخفض سعر الفائدة بشكل أكبر من المتوقع أدّى إلى انخفاض الليرة التركية، وارتفاع الأسعار، ومعدل التضخم السنوي الذي وصل الشهر الماضي إلى حوالي 20 في المئة. ولطالما اتهم أردوغان أسعار الفائدة بالتسبب في التضخم.
وخلص استطلاع للرأي العام في مايو إلى أن 56.9 في المئة من المشاركين لن يصوتوا لصالح أردوغان وأن الرئيس سيخسر في جولة الإعادة ضد اثنين من منافسيه، عمدة أنقرة منصور يافاش ونظيره في إسطنبول أكرم إمام أوغلو.
وفي المزيد من الأخبار السيئة للرئيس التركي قالت شركة ميتروبول لاستطلاعات الرأي إن الاستطلاع الذي أجرته في سبتمبر أظهر أن 69 في المئة من المستطلعين يرون العلمانية ضرورة في حين عارض 85.1 في المئة استخدام الدين في الحملات الانتخابية.
في حالة إيران يقول جيمس دورسي إن مجموعة من العوامل تعمل على تغيير ديناميكيات علاقاتها مع بعض الميليشيات العربية المتحالفة معها، الأمر الذي يدعو إلى التشكيك في التمركز المحلي لبعض تلك الميليشيات، ويؤجج القلق في طهران من أن منتقديها يحاصرونها، ويؤثر ذلك على الطريقة التي تود إيران إبراز نفسها بها.
وخلص تقرير نُشر مؤخرا عن مركز مكافحة الإرهاب في أكاديمية ويست بوينت العسكرية الأميركية إلى أن الحرس الثوري الإيراني يواجه “صعوبات متزايدة في السيطرة على الخلايا المسلحة المحلية. وتكافح الميليشيات المتشددة المناهضة للولايات المتحدة مع الاحتياجات المتنافسة لتهدئة التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، وتلبية مطالب قاعدتها في علاقة بمناهضة الولايات المتحدة، وتطوير أجنحة سياسية واجتماعية غير حركية في نفس الوقت”.
وتعدّ التهدئة الإيرانية للتوترات مع الولايات المتحدة نتيجة للجهود المبذولة لإحياء الاتفاقية الدولية لسنة 2015 لكبح البرنامج النووي الإيراني والمحادثات التي تهدف إلى تحسين العلاقات مع المملكة العربية السعودية حتى لو لم تسفر عن نتائج ملموسة حتى الآن.
بالإضافة إلى ذلك، كما هو الحال في لبنان، واجهت القوة الناعمة الإيرانية في العراق تحديا من خلال المعارضة الشعبية العراقية المتزايدة للطائفية والميليشيات الشيعية التي تدعمها إيران والتي تسيطر عليها الدولة اسميا فقط.
والأسوأ من ذلك أنه تم تحديد الميليشيات، بما في ذلك حزب الله، الجماعة المسلحة الأولى في العالم العربي المدعومة من إيران، مع النخب الفاسدة في لبنان والعراق. ويعارض الكثيرون في لبنان حزب الله باعتباره جزءا من النخبة التي سمحت للدولة اللبنانية بالانهيار لحماية مصالحها الخاصة.
ولم يفعل حزب الله الكثير لمواجهة هذه التصورات عندما هدد زعيم الجماعة حسن نصرالله المسيحيين اللبنانيين بعد اندلاع القتال هذا الشهر بين الميليشيا والقوات اللبنانية، وهي حزب ماروني، على طول الخط الأخضر الذي فصل الشرق المسيحي عن بيروت الغربية المسلمة خلال الحرب الأهلية.
واشتبكت الجماعتان لساعات بينما نظم حزب الله مظاهرة للضغط على الحكومة لإحباط التحقيق في الانفجار المدمر الذي وقع العام الماضي في ميناء بيروت. ويخشى حزب الله من أن التحقيق قد يكشف عن استمرار وضع مصالح الجماعة فوق السلامة العامة.
وحذر نصرالله من أن “الخطر الأكبر على الوجود المسيحي في لبنان هو حزب القوات اللبنانية ورئيسه”، مما أثار مخاوف من عودة العنف الطائفي.
ويلقي هذا التحذير شبهات على تأكيد إيران على أن إسلامها يحترم حقوق الأقليات بتخصيص مقاعد في برلمان البلاد للأقليات الدينية. ومن هؤلاء اليهود والأرمن والآشوريون والزرادشتيون.
وبالمثل، مُني تحالف الميليشيات الشيعية التي تدعمها إيران بخسارة كبرى في الانتخابات العراقية التي جرت هذا الشهر. وشهد تحالف الفتح، ثاني أكبر كتلة في البرلمان سابقا، تراجع عدد مقاعده من 48 إلى 17 مقعدا.
وقدّم رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي موعد التصويت لاسترضاء حركة احتجاجية يقودها الشباب اندلعت قبل عامين ضد الفساد والبطالة وانهيار الخدمات العامة والطائفية والتأثير الإيراني في السياسة.
لكن إيران تعتبر أنها حققت مكسبا بعد أن آلت محاولة نشطاء في الولايات المتحدة خلال شهر سبتمبر للضغط من أجل دفع العراق للاعتراف بإسرائيل إلى نتائج عكسية.
واستهدفت إيران الشهر الماضي منشآت في شمال العراق تديرها جماعات كردية إيرانية معارضة. وتعتقد طهران أنهم جزء من الخناق الأميركي – الإسرائيلي المشدد حولها وتشمل وكلاء وعمليات سرية على حدودها العراقية والأذرية.
وباءت جهود تخفيف حدة التوتر مع أذربيجان بالفشل مع نهاية الحرب الكلامية التي ثبت أن المناورات العسكرية على جانبي الحدود لم تدم طويلا. وبدا الرئيس الأذري إلهام علييف، الذي شجعه الدعم الإسرائيلي والتركي في حرب العام الماضي ضد أرمينيا، غير مستعد للتخفيف من حدة خطابه.
ومع بقاء إحياء البرنامج النووي موضع شك، تخشى إيران من أن تصبح أذربيجان منصة انطلاق للعمليات السرية الأميركية والإسرائيلية. وقد تعززت هذه الشكوك من خلال دعوات الخبراء في مراكز الأبحاث المحافظة في واشنطن إلى دعم الولايات المتحدة لأذربيجان، بما في ذلك عبر تقارير من معهد هدسون ومؤسسة التراث.
وحذّر إلدار محمدوف المستشار السياسي لمجموعة الاشتراكيين والديمقراطيين في لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان الأوروبي من أن “الحكومة الأميركية يجب أن تقاوم دعوات الصقور للتورط في صراع حيث لا توجد مصلحة حيوية لها على المحك، ونيابة عن نظام يتعارض تماما مع القيم والمصالح الأميركية”.
وأشار إلى أن علييف أجبر المنظمات غير الحكومية الأميركية الكبرى على مغادرة أذربيجان وانتهك حقوق الإنسان والحقوق السياسية، ولم يكن متسامحا مع التراث الأرمني للبلاد.