في آخر قمة شاركت فيها ميركل
قضايا الهجرة تعمّق الخلافات بين دول الاتحاد الأوروبي
انتهت القمّة الأوروبية الأخيرة، في ساعة متأخرة من ليل أول من أمس (الجمعة)، بشرخ جديد عميق بين الدول الأعضاء حول ملفّ الهجرة الذي ما زال يرخي بثقله على العلاقات بين دول الجنوب والشمال، وبدقّ ناقوس الإنذار من أزمة غاز على الأبواب في الوقت الذي تواصل فاتورة الطاقة الأوروبية ارتفاعها المطّرد، وتحطّم كل يوم أرقاماً قياسية جديدة تهدد بخروج التضخم عن السيطرة، وكبح الانتعاش الاقتصادي بعد «كوفيد - 19».
وكان الانقسام حول ملف الهجرة ثلاثي الأبعاد هذه المرة، حيث طالبت كتلة الدول الشرقية برفع جدار على الحدود الخارجية للاتحاد لمنع تدفّق المهاجرين، فيما اعترضت دول الشمال على ما يُسمّى في الاصطلاح الأوروبي «التحركات الثانوية»، أي انتقال الوافدين من بلدان الوصول إلى دول الداخل، بينما قادت إيطاليا كتلة الجنوب التي ترفض أن تتحمّل وحدها وزر موجات المهاجرين عبر شرق المتوسط، معترضة بشدّة على إقامة جدار على الحدود الخارجية.
ولم يقتصر النقاش الذي احتدم طوال ساعات بين القادة الأوروبيين حول موضوع الهجرة على المواجهة بين المعسكرات الثلاثة، لكنه قبل أن ينتهي بتأجيل بتّه إلى القمة المقبلة أواخر العام الحالي، أو ربما إلى القمة الأولى خلال الرئاسة الفرنسية، توقّف طويلاً عند ما وصفته رئيسة المفوضية أورسولا فون در لاين «ابتزاز لوكاشنكو» رئيس بيلوروسيا الذي تخضع بلاده لحزمة عقوبات أوروبية، ويهدّد بفتح حدوده أمام المهاجرين غير الشرعيين للعبور إلى بلدان الاتحاد. كما توقّف أيضاً عند التحذيرات التركية بترك المهاجرين يتدفقون إلى أوروبا من أفغانستان وإيران، والتصريحات التي صدرت عن وزير الداخلية التركي سليمان سويلو الذي قال: «ثمّة ثلاثة ملايين أفغاني في إيران حالياً، منهم مليونان على أهبة التحرّك باتجاه أوروبا، فيما يقدّر عدد الذين يعبرون الحدود الأفغانية - الإيرانية يومياً بما يزيد على ألفين».
لكن الملفّات الشائكة والحسّاسة التي استحوذت طوال يومين على مناقشات القمة الأوروبية، لم تعكّر أجواء الوداع الذي كان أعده القادة لعميدتهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وامتد بعد منتصف الليل في فندق على بعد خطوات من مقرّ المجلس الأوروبي، وتخللته تحيّة عبر الفيديو من الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما.
من شِبه المؤكد أن هذه القمّة كانت الأخيرة التي تشارك فيها ميركل مستشارةً لبلادها، إلا في حال لم تتشكّل الحكومة الألمانية قبل نهاية العام الحالي.
107 قمم أوروبية شاركت فيها المستشارة الألمانية، وكانت خلالها القوة الوازنة الرئيسية وقاطرة الاتحاد طوال 16 عاماً، أو «صرحاً»، كما وصفها رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، مقارناً إياها «بروما من غير الفاتيكان أو باريس من غير برج إيفيل»، ليقول لها عندما سلّمها هديّة الوداع التذكارية: «سنفتقد حكمتك خاصة في الظروف الصعبة».
طوال ولاياتها الأربع على رأس الحكومة الألمانية، مارست ميركل دور الزعيمة الأوروبية الأولى بلا منازع، قبل أن تتقاسمه مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في العامين الماضيين. وشهدت صعود نجوم في المشهد الأوروبي، مثل الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون والمستشار النمساوي سيباستيان كورتز، لتشهد بعد ذلك أفولهم، فيما هي صامدة في زعامتها ونفوذها لا تتزعزع.
عاصرت ميركل خمسة رؤساء فرنسيين، وخمسة رؤساء بريطانيين للحكومة، وثلاثة إسبان وثمانية إيطاليين، ومعهم تفاوضت وتوصّلت إلى اتفاقات حول كل الأزمات الكبرى التي عصفت بالاتحاد الأوروبي منذ القمّة الأولى أواخر العام 2005 بعد انتخابها كأول امرأة ترأس الحكومة الألمانية.
ليس واضحاً بعد من سيملأ الفراغ الكبير الذي ستتركه ميركل بعد انكفائها عن المشهد السياسي الأوروبي. المستشار الألماني الجديد الاجتماعي الديمقراطي أولاف سكولز؟ أو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يسعى إلى تجديد ولايته العام المقبل؟ أو رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي الذي يحظى بتقدير عميق واحترام في الأوساط الأوروبية؟
لكن الأكيد أن الاتحاد الأوروبي سيفتقد النموذج الذي أرست قواعده ميركل في الاتحاد، استناداً إلى قدرة لا تكلّ على التفاوض حتى اللحظات الأخيرة وسعي دؤوب إلى الحلول الوسطية. وإلى جانب النجاحات الكثيرة التي ترصّع إرثها السياسي، تبقى علامات سوداء، مثل الوصفات الاقتصادية الكارثية خلال أزمة اليورو، التي أغرقت بلدان الاتحاد في مرحلتين متعاقبتين من الانكماش، ودفعت اليونان إلى أكبر انهيار اقتصادي عرفته دولة أوروبية في زمن السلم.