جيل جديد من المبدعين يحاول استنطاق الهامش وكشف المجهول.

مغاربيو فرنسا يخرجون عن صمتهم عبر روايات وأفلام تسائل الماضي

باريس

يتولى أبناء الجزائريين والمغاربة الذين هاجروا إلى فرنسا في مرحلة ما بعد الاستعمار توثيق هذه الذاكرة التي يلفّها صمت الغربة أحياناً، وفي أعمالهم على الشاشة أو على صفحات الروايات والكتب، يضعون نقاطاً على حروف حياة أشخاص “مهمشين” ويحيون الذاكرة بشكل آخر.

 

وربما ساهمت وسائل التواصل وسهولة العبور إلى المعلومات والأزمات الوجودية التي خلفتها التكنولوجيا والصراعات والتقلبات والكثير من الأسباب الأخرى في العودة إلى مساءلة التاريخ، وهو ما دفع بالأجيال الجديدة من الكتاب والفنانين المغاربيين المقيمين في فرنسا إلى طرق مواضيع كانت في السابق مسكوتا عنها بالكامل، أو يتحاشى الكثيرون الخوض فيها.

 

تجنب الكثيرون الخوض في الأسباب الحقيقية لهجرة الجيل الأول من الجزائريين المتهم بعضهم بالتعاون مع الاحتلال الفرنسي، وهجرات أخرى للمغاربة والتونسيين، لمن خيروا الاستقرار في فرنسا وتركوا ماضيهم في أوطانهم علامة استفهام أغرت الأحفاد بتتبعها.

 

في إطار استنطاق الذاكرة انطلقت في منتصف أكتوبر الجاري في دور السينما الفرنسية عروض الفيلم الوثائقي “جزائرهم” للمخرجة لينا سويلم (31 عاما)، كريمة الممثل زين الدين سويلم، وتستكشف فيه صمت جديها عائشة ومبروك، وهما اللذان انتقلا إلى فرنسا في خمسينات القرن العشرين، ولم يتركاها بعد ذلك.

 

فالمخرجة الشابة لا تعرف شيئاً عن حياتهما، وهي تسعى عبر الفيلم إلى استكشاف فجوة الذاكرة هذه التي انتقلت أيضاً إلى والدها، ومما تبيّن لها مثلاً خلال تصوير الوثائقي أن أباها المولود في فرنسا لم يحصل على الجنسية الفرنسية إلا بعد 18 عاماً.

 

وتقول سويلم “لم نتحدث قط عن هذه المواضيع لأن الصمت كان القاعدة. ذلك الصمت الذي كان ينتقل من جيل إلى جيل، كما لو أنه لغة المنفى في نهاية المطاف”.

 

من خلال إعطائها الكلمة لجدّيها، وهما من “أولئك الأشخاص غير الظاهرين في القصة الوطنية الفرنسية الذين اضطروا إلى التزام التحفظ لكي يتمكنوا من العيش بسلام”، تمكنت سويلم من ربط قصتها الشخصية بالتاريخ الأكبر.

 

وإسماع هذه الأصوات هو أيضاً ما أرادته ليليا حسين من خلال روايتها “سولاي أمير” (شمس مُرّة) الصادرة عن دار”غاليمار” والتي اختيرت ضمن اللائحة الأولية للأعمال المتنافسة على جائزة “غونكور”، أرقى الجوائز الأدبية الفرنسية.

 

وليست هذه القصة رواية ذاتية مع أنها بمثابة لوحة تصوّر هجرة أسرة جزائرية إلى فرنسا في ستينات القرن العشرين وتحاكي تالياً قصتها الخاصة. وتشرح المؤلفة، وهي صحافية، أنها شاءت أن تفسح المجال “أمام المنتمين إلى هذا الجيل” لكي يقولوا ما لديهم.

 

وتلاحظ حسين التي تتولى مهمة التعليق في برنامج “كوتيديان” التلفزيوني أن “ما مِن شيء متوافر عن هؤلاء الذين كانوا أول من أتى إلى فرنسا. فثمة أفلام وكتب عن حرب الجزائر، لكنّ التوثيق قليل جداً للمجيء إلى فرنسا”. وتؤكد أنها كتبت “من دون غضب”.

 

وشهدت السنوات الأخيرة إصدار عدد من الأعمال التي تسعى إلى تسجيل هذه الذاكرة التي بدأ الشهود عليها يتلاشون تدريجياً، من بينها “لا ديسكريسيون” عن دار “بلون” عام 2020 لفايزة غوين و”لار دو بيردر” الصادر عن دار “فلاماريون” والفائز بجائزة “غونكور” لتلامذة المدارس الثانوية عام 2017، وهو كتاب لأليس زينيتر مستوحى من حياة جديها اللذين انتقلا من الجزائر إلى فرنسا.

 

كذلك نشرت ليلى السليماني “لو بيي ديزوتر” عن دار “غاليمار” عن 2020 عن لقاء جدتها الفرنسية بجدها المغربي، إضافة إلى أعمال لكتّاب آخرين.

 

ترى الباحثة سليمة طنفيش في تصريح لها أن ثمة “حركة حقيقية لتحرير ذاكرة” هؤلاء المهاجرين الأُوَل، وهي مهمة يتولاها أحفادهم.

 

وتضيف “بالنسبة إلى الجيل الأول، كان من الضروري أن يبقى حذراً من أجل البقاء. أما بالنسبة إلى الجيل الثاني الذي كان شاهداً على تضحيات والديه، فكانت مسألة الذاكرة ثانوية. إلا أن الجيل الثالث، القريب بما فيه الكفاية ولكن البعيد في الوقت نفسه عن هذا التاريخ المؤلم. هو الذي تمكن من الاستحواذ على هذه القضية”.

 

وبالتالي، انكبّ أبناء الجيل الثالث على سبر أغوار هذه القصص، ولاسيّما النساء منهم اللواتي يتولى عدد منهن هذه المهمة في الوقت الراهن.

 

وفي نهاية شهر أغسطس، نشرت عالمة الاجتماع كوثر حرشي رواية بعنوان “كوم نوزاريفون” عن دار “أكنت سود” تتناول فيها قصة انتقال والديها من المغرب إلى فرنسا، وتتناول العنصرية الكامنة، كذلك الإهداء الذي لم تنسه الكاتبة البالغة 34 عاماً من معلّمة إلى من سمّتها “عربيتي الصغيرة”.

 

وتؤكد حرشي أن “الكثير من الناس يمكن أن يجدوا أنفسهم” في هذه القصة التي تتجاوز شخصها.

 

وتعتبر المخرجة الوثائقية لينا سويلم أن “المهم هو أن هذه القصص موجودة وتعيش في المجتمع الفرنسي لأنها جزء من التاريخ الفرنسي. حتى لو كان يُنظر إليها لفترة طويلة على أنها تنتمي إلى تاريخ غريب عن تاريخ فرنسا”.