بيت الإخوان يتهاوى

القاهرة تنتظر مآلات خلافات الإخوان استعدادا للمرحلة المقبلة

القاهرة

انشغل البعض من المراقبين بتفاصيل ما يدور داخل جماعة الإخوان من خلافات عميقة بين مكتب إسطنبول الذي يتزعمه القيادي محمود حسين ومكتب لندن الذي يقوده القائم بأعمال المرشد إبراهيم منير، ولم ينشغل هؤلاء بالطريقة التي يمكن أن تُصفّى بها المعركة السياسية بين المكتبين وما تحمله من تداعيات في القاهرة.

تدور الخلافات على الأراضي التركية والبريطانية، لكن تأثيراتها سوف تكون لها ارتدادات واسعة على الأراضي المصرية لأنها منشأ التنظيم الأم ومكان تفاعلاته المركزية، ولذلك تترقب القاهرة ما سوف تسفر عنه المعركة السياسية بين منير وحسين بعد أن وصلت إلى مستوى العزل والعزل المضاد للسيطرة على قوام التنظيم.

تهتم الحكومة المصرية بالطريقة التي تُصفّى بها الخلافات، بالتفاهم والحلول الوسط أو الانشقاق، ومعنية بما سيتمخض عن الطريقين، وتعلم أن خيار العودة إلى التفاهم وارد حدوثه، فالخلاف يدور بعيدا عن ثوابت التنظيم وينصبّ على آلية إدارته في الوقت الراهن، حيث يمر بفترة غاية في الحساسية ويحتاج إلى توافق جميع قياداته.

في جميع المرات التي عصفت بالجماعة انشقاقات حادة على مدار العقود الماضية ظل عصب التنظيم متماسكا ولم ينفرط، وبقي المنشقون قلة ولم يغير خروجهم عن قيادة الجماعة شيئا كبيرا في هيكلها الرئيسي، فالهيراركية التي تعمل بها القيادة وفرت له حماية من الانهيار وعصمته من المصير الغامض الذي دخلته جماعات سياسية أخرى.

يختلف الوضع هذه المرة عن المرات السابقة من زاوية أن عددا كبيرا من قيادات الجماعة داخل السجون المصرية، ومنهم من حُكم عليه بأحكام قضائية نهائية تبقيه سنوات طويلة في الحبس أو تقوده إلى الاعدام، ومنهم هاربون ومشردون في بلدان مختلفة.

وأفقدت الضربات الأمنية والسياسية التي تعرض لها التنظيم في مصر جانبا مهما من قوته، وساءت صورته في الشارع بسبب العنف المفرط الذي قام به الجناح المسلح والتحالف مع تنظيمات إرهابية متعددة، ولم تعد خطابات المظلومية لدى من بقوا خارج السجون من قادة التنظيم تدغدغ المشاعر أو تجذب المواطنين إليها، وهي الركيزة التي وفرت قاعدة قللت من جدوى الخلافات التي مر بها التنظيم سابقا.

كما أن القوى الإقليمية والدولية التي مثلت حاضنة له بعضها أنهى أو خفف من دعمه للتنظيم، بما جعله أكثر ضعفا وأقل مقاومة لصد الخلافات التي شوهت الصورة التي حاولت هياكله القيادية رسمها له كتنظيم حديدي غير قابل للاختراق ولا أحد يعلم ما يدور في كواليسه وبين جدرانه، فقد باتت الكثير من التطورات يجري تداولها على الملأ بشكل يوحي بأن الجماعة لم تعد متمكنة من السيطرة على خلافاتها الداخلية.

وتنتظر القاهرة التعرف على آلية تصفية التباين وبأيّ وسيلة سياسية، وإلى أيّ جبهة ستحسم المعركة، ومن يقفون خلف منير وحسين، وما هو مصير بعض القيادات والكوادر التي لا تميل إلى هذا أو ذاك حاليا، وما هو موقف القيادات القابعة داخل السجون في مصر، وهل تظل القوى الخارجية الداعمة بمنأى عن هذه الخلافات أم هي جزء منه ولها انحيازات مع أحد الطرفين المتصارعين أو ضده حتى الآن؟

تحدد الإجابة الدقيقة على هذه الأسئلة الكثير من ملامح التعامل المصري مع الخلافات الراهنة، ويحتاج العثور على إجابات شافية لها المزيد من الوقت، ما يعني أن القاهرة سوف تظل منتظرة وتترقب معرفتها بالحصيلة النهائية للأزمة، الأمر الذي يمنحها فرصة من الوقت للمراقبة والمتابعة وتحديد السيناريوهات.

ترى الحكومة المصرية أن خلافات الإخوان ممتدة لأن قيادات التنظيم، والقوى الإقليمية والدولية المهتمة بها، لن تضحي بسهولة بالجماعة وتجعلها تتهاوى، وقد تكون هناك محاولات لجمع الشمل مرة أخرى، فالأزمة التي تمر بها عاصفة وإذا تركت لمصيرها المجهول دون تدخل أو احتواء سوف تفقدها الكثير من زخمها وتخرجها من حسابات القوى التي وظفتها سياسيا وأمنيا على مدار سنوات طويلة.

دعمت الأزمة الحالية تقديرات الكثير من المراقبين بأن قيادات الجماعة غير قادرة على إحكام قبضتها على هياكلها الداخلية، والضربات التي تعرضت لها أعادتها كثيرا إلى الوراء، وخطابها العام أصبح عاجزا عن إقناع كوادرها وشبابها، فما بالك بمن هم خارجها من قوى وأحزاب مالت إلى التعاون والتنسيق معها من قبل؟

وفّرت الأزمة للحكومة المصرية وقتا لالتقاط أنفاسها من الضغوط الواقعة عليها بشأن فتح نافذة للإصلاحات السياسية والبدء في صفحة جديدة مع الجماعة، لأن فصول المعركة لم تنته بعد، ويمكن أن تؤدي إلى المزيد من التدهور داخلها، بالتالي تتراجع أهمية واحدة من الصفحات التي كانت عنصرا مهما في المعادلة السياسية بمصر.

وتبدو القاهرة غير مستعجلة للحكم على نتيجة معركة منير – حسين، لأن هناك جزءا كبيرا غاطسا فيها، فما يتم تداوله عبر وسائل الإعلام التابعة للتنظيم لا يحوي الحقيقة كلها وتقوم به لجان إلكترونية توجه المعركة نحو المربع الذي تريده، كما أن الخلافات تدور حول الرؤى التي يتبناها كل طرف لإدارة الجماعة وتقويتها.

لم يشر أحدهما إلى الخروج عن مسارها التاريخي أو تبني طروحات مغايرة، ولم يتحدث كلاهما عن تحول في الأسس التي تنطلق منها الجماعة، ولم يطرأ تغير في التوجهات حيال النظام المصري، فلا تزال المفردات السلبية القديمة المكررة يتم تداولها على ألسنة الجبهتين، وربما يتم اللجوء إلى توجيه الدفة نحو وجهة أخرى لكسب ود الكوادر وحرف الأزمة عن مسارها الداخلي وتصويبها إلى القاهرة مباشرة.

لذلك لا تتعجل الحكومة المصرية قطف الثمار السياسية مما يحدث بين مكتبي إسطنبول ولندن، ففي ظل ضيق الخيارات المتاحة أمام قيادات التنظيم وعدم تجاوب القاهرة مع الرسائل التي وصلتها على مدار الفترة الماضية سيجد منير وحسين في النظام المصري هدفا لتكثيف الضربات السياسية لاسترداد جانب من الحيوية التي خسرها التنظيم بعد التغير النسبي في رؤية أنقرة، والتي قادت إلى تقارب مع القاهرة قلّص مساحة الحركة الإعلامية التي تمتعت بها الجماعة على الأراضي التركية.

ينتظر النظام المصري معرفة نتيجة الحوارات الاستكشافية مع نظيره التركي التي سوف تحدد إلى حد كبير وسيلة تعامله مع جماعة الإخوان الفترة المقبلة، فما يهمه في معركة منير – حسين موقف أنقرة التي تبدو صامتة على ما يدور داخل أراضيها، كأنه شأن لا يهمها، وهو ما يزعج القاهرة التي تخشى أن تكون المعركة بينهما مفتعلة لتخفيض سقف ضغوطها على أنقرة، باعتبار أن السوس ينخر في التنظيم ويوشك على أن يأكله، من ثم لا داعي ليكون ورقة تعطل التقارب بين البلدين.

هذه واحدة من الفصول الدقيقة التي تتحسب لها القاهرة، لأن الخبرات السابقة ولدت قناعات بعدم الثقة في الإخوان إطلاقا، والشك في حسن النوايا التركية، فعندما لا تجد أنقرة وسيلة للتنصل من الالتزامات المطلوبة منها تلجأ إلى الهروب إلى الأمام على أمل أن تصوّب علاقاتها بعيدا عن ورقة الإخوان التي تريد الحفاظ عليها لأسباب أيديولوجية.