قراءة حول بيان الخارجية السعودية بشأن التطورات الأخيرة في محافظتي حضرموت والمهرة
د. وليد ناصر الماس
البيان الصادر عن الخارجية السعودية مؤخرا، لم يشر إطلاقا إلى استعادة الدولة اليمنية أو مواصلة القتال...
لم تعد أزمة اليمن مجرد صراع سياسي عابر أو خلاف على السلطة، بل باتت نتاجًا تاريخيًا لتراكم طويل من سوء إدارة الدولة، وغياب العدالة في توزيع الثروة والسلطة، وهيمنة المركز على حساب الأطراف.
وقد أثبتت التجربة اليمنية، كما أثبتت تجارب دول عديدة، أن الدولة المركزية المفرطة لا تنتج سوى الاحتقان، والانقسام، والصراع المستدام.
لقد فشلت المركزية في إدارة بلد متنوع جغرافيًا واجتماعيًا وثقافيًا مثل اليمن، وأدّت عمليًا إلى تهميش واسع للمناطق، وتحويل الدولة إلى أداة بيد نخب محدودة، بدل أن تكون إطارًا جامعًا لجميع المواطنين. ومن هنا، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة صياغة شكل الدولة، لا عبر حلول ترقيعية أو تسويات مؤقتة، بل من خلال مشروع وطني شامل يقوم على دولة اتحادية فيدرالية من 22 ولاية، تكون كل ولاية فيها شريكًا حقيقيًا في الحكم والثروة، لا تابعًا مهمشًا.
إن تقسيم اليمن إلى ولايات صغيرة نسبيًا، بدلًا من أقاليم واسعة، يشكّل ضمانة أساسية لوحدة الدولة. فالتجارب التاريخية أثبتت أن الأقاليم الكبيرة قد تتحول مع الزمن إلى كيانات متصلبة ومتنافسة، وربما انفصالية، بينما تتيح الولايات المتعددة توزيعًا أوسع للسلطة، وتمنع الاحتكار، وتخلق توازنًا وطنيًا صحيًا بين المركز والأطراف.
ويستند هذا الطرح إلى نماذج اتحادية ناجحة في العالم. فالولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، قامت كدولة اتحادية تضم خمسين ولاية، لكل ولاية دستورها وحكومتها وصلاحياتها الواسعة، فيما تحتفظ الحكومة الاتحادية بالملفات السيادية الكبرى. هذا النموذج لم يُضعف وحدة الدولة، بل عزّزها، وحوّل التنافس السياسي إلى تنافس تنموي واقتصادي بين الولايات، ما جعل الولايات المتحدة واحدة من أكثر الدول استقرارًا وتأثيرًا في العالم.
كما تقدّم دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجًا اتحاديًا ناجحًا في بيئة عربية وخليجية قريبة من الواقع اليمني. فالاتحاد بين سبع إمارات، لكل منها خصوصيتها وصلاحياتها المحلية، لم يكن عائقًا أمام بناء دولة قوية، بل كان أساسًا للاستقرار السياسي، والنمو الاقتصادي، والتعايش الاجتماعي. لقد أثبتت التجربة الإماراتية أن الفيدرالية ليست نقيضًا للوحدة، بل إطارًا ذكيًا لإدارتها.
في النموذج الاتحادي اليمني المقترح، تتمتع كل ولاية بحكم ذاتي كامل في شؤونها الداخلية والإدارية والاقتصادية والتنموية، ضمن دستور وقوانين محلية منسجمة مع الدستور الاتحادي. وتُنتخب حكومات الولايات ومجالسها التشريعية بإرادة مباشرة من السكان، بما يعزز المساءلة والشفافية، ويعيد الثقة بين المواطن ومؤسسات الحكم.
في المقابل، تقتصر صلاحيات الحكومة الاتحادية على الملفات السيادية، وفي مقدمتها الدفاع، والسياسة الخارجية، وإدارة العملة والاقتصاد الاتحادي، وضمان العدالة في توزيع الثروات، ودعم الولايات الأقل حظًا من التنمية وبهذا التوازن، تتحول الدولة من مركز متسلط إلى مظلة جامعة، ومن عبء على المواطن إلى شريك في حمايته وخدمته.
ولا يمكن لأي دولة اتحادية أن تنجح دون ترسيخ مبدأ حرية التنقل والسكن والعمل بين جميع الولايات دون قيود أو حواجز. فاليمنيون يجب أن يكونوا أحرارًا في وطنهم، لا أسرى للجغرافيا أو الانتماءات الضيقة. إن المواطنة الاتحادية المتساوية هي حجر الأساس لأي استقرار دائم، وأي مشروع وطني قابل للحياة.
إن الفيدرالية ليست مشروع تفكيك كما يحاول البعض تصويرها، بل هي في جوهرها مشروع إنقاذ وطني، ينقل الصراع من ساحات السلاح إلى ميادين التنمية، ويمنح المجتمعات المحلية القدرة على إدارة شؤونها، ويضع حدًا لدورات العنف التي غذّتها المركزية لعقود.
اليمن اليوم يقف أمام مفترق طرق تاريخي: إما الاستمرار في دوامة المركزية والفوضى والانهيار، أو الشروع الجاد في بناء دولة اتحادية عادلة، حديثة، وقادرة على استيعاب تنوعها الجغرافي والاجتماعي. إن الدولة الاتحادية من 22 ولاية ليست رفاهية سياسية، بل ضرورة وجودية، إذا ما أردنا يمنًا موحدًا، مستقرًا، وقابلًا للحياة.