حضرموت ليست حقل تجارب؛ ارتجال المجلس الانتقالي وعبثية الغباء السياسي
د. فائز سعيد المنصوري
رغم التضحيات الجسيمة التي قدّمها أبناء الجنوب وحضرموت منذ اجتياح الحوثيين وأذنابهم في عام 2015م، لا...
في مسار التاريخ، لا تُصنع الثورات على الأرائك الوثيرة، ولا تُبنى الأوطان على ترانيم الهدوء وحدها. غالبًا ما تُكتب البدايات العظيمة بالحبر الممتزج بالعناء، وتُنسَج خطواتها الأولى من أشواك التجربة ودماء الإصرار. هكذا كانت الثورة الجنوبية، ببداياتها المتعثرة، وعقباتها التي لا تُحصى.
ولأننا أصحاب ذاكرة حيّة، لا ننسى الشهداء، ولا الأرامل والثكالى واليتامى. نحدّث الأطفال القادمين إلى الحياة بكل ما مضى، ليكبروا وهم يقولون: "لن ننسى، ولن نغفر". نهمس في أذن الذاكرة الجمعية أن الطريق الذي سلكناه – سلميا ومسلّحا – لم يكن معبّدا بالورود، بل ملأته الحفر التي حفرها خصومنا بأدق أدوات الحذر والعداء.
لم نواجه خصما عاديا، بل دولة كاملة بأجهزتها وسلطانها، بثقلها العسكري والسياسي والمالي. سخّرت كل ما تملك لإجهاض حراكنا. الإعلام، الاستخبارات، المال، الدين، والمؤسسة العسكرية، كلها تحالفت ضد إرادتنا.
علي عبد الله صالح كان يمتلك مؤسسات إعلامية ومواقع صحفية، وكان جزءٌ من تنظيم القاعدة تحت مظلته، فضلًا عن سلفية محمد الإمام، والأجهزة الأمنية والترسانات العسكرية التي وُجّهت نحو الجنوب.
أما علي محسن الأحمر، فقد أحكم سيطرته على حزب الإصلاح بصحفه ومواقعه، وعلى جزء كبير من القاعدة والسلفية الحجورية، لتتحوّل أدوات الدولة إلى سلاح قمع ضد أبناء الجنوب.
منذ اللحظة الأولى، لم تُوجّه إلينا البنادق فقط، بل الكلمات أيضا. واجهنا الكذب الممنهج، والتشويه "المقدّس". سُمّينا عملاء، لأننا طالبنا بوطن حر. اتُّهِمنا بالكفر، لأننا حلمنا بوطن بلا وصاية. قالوا إن "الوحدة من أركان الإسلام"، وكأننا بمطالبنا نمسّ جوهر العقيدة.
رُشقنا بأقذع النعوت: هنود، أحباش، صوماليون، غرباء في أرضنا. هم من فوق منابر السياسة والدين، ونحن في الشوارع والقبور نحمل الحلم. لم نتوقف عند شتائمهم ولا عند رصاصهم. دفنّا شهداءنا ومضينا، شيّعنا الأحبّة وزرعنا على قبورهم رايات، وواصلنا الطريق.
لقد سخّروا كل شيء ضدنا: إعلاما حزبيا يلوك الأكاذيب، استخبارات تزرع الفتنة، وعلماء يفترون أنهم وكلاء الله على الأرض. فتاوى التكفير والقتل نزلت كالمطر، فقط لأننا طالبنا بأن نُعامل كبشر، أن يُنظر إلينا كشعب لا كطائفة ضالّة.
بلغ الحقد ذروته حين قال محمد الإمام: "من يدعونا إلى الانفصال، كمن يدعونا إلى الكفر"، فيما أصدر الحجوري عشرات الفتاوى ضدنا، متّهمًا إيانا بالعمالة والخيانة والارتزاق.
الجرح الأعمق لم يكن من خصومنا، بل من إخوتنا الذين خدعتهم شعارات "الوحدة أو الموت"، أو ضلّلهم إعلام الإخوان وفتاوى سلفيي دماج ومعبر. رددوا تهم الخصوم: بلاطجة، عملاء، إيرانيون… وكأنهم فقدوا الرؤية تحت دخان الدعاية. بل ذهب بعضهم إلى تكفيرنا لأننا ردّدنا على فتاوى أعدائنا.
واجهنا كل ذلك: إعلامًا مضللًا، أجهزة أمنية تمزّق الصف، رجال دين يفتون بقتلنا، وأبناء جلدتنا الذين انقلبوا على قضيتهم. لكننا لم ننحدر. لم نشتم، لم نكفّر، لم نغدر. قاتلنا الظلمة، وفتحنا عيون المخدوعين. قسّمنا جهدنا بين جبهة توعية تنزع الغشاوة عن العيون، وجبهة مقاومة سياسية وعسكرية تصد آلة الطغيان.
قلناها بوضوح: كل ما جاء على دبابة 7 يوليو هو باطل وعدوان على شعب الجنوب.
عاش الجنوب بين مطرقة الفتوى وسندان القرار السياسي. جُلدنا هنا، وكُفّرنا هناك. ولكن حين تتقاطع العقائد مع الأهواء، وتُسخَّر الفتاوى لخدمة الاستبداد، يسقط طُهر الدين، وينهار منطق السياسة، وتظهر الحقيقة بوضوح لا لبس فيه.
وبرغم كل ما جرى، لم تَمُت الإرادة. فالحروب لا تُقاس بالترسانة والمال، بل بإرادة الشعوب. ولو كانت المسألة مسألة سلاح، لسقط الشعب الفلسطيني منذ خمسين عامًا. لكن الشعوب الحية، وإن خذلتها الجغرافيا وخانها التاريخ، تنهض في النهاية بصوت القلب لا صدى الكذب.
فالحق، وإن أحاطته الشبهات، يبقى مضيئًا كجمرة لا تنطفئ.