السمن قوة والعسل حلوّة !!
د. عبده يحيى الدباني
منذ صغري وانا اسمع في القرية هذا المثل : ( السمن قوة والعسل حلوة)، والمثل هنا يُفضل &nbs...
منذ صغري وانا اسمع في القرية هذا المثل : ( السمن قوة والعسل حلوة)، والمثل هنا يُفضل السمن على العسل، ولكن لكلٍ فوائده الغذائية، والمقصود بالسمن هنا هو سمن البقر لا سواه، وهو المنتشر في الريف، ولعلّ صاحب المثل أراد أن يبين قيمة السمن الغذائية حين وجدَ تهافت الناس على العسل، لأنه بالنسبة للطعم فالعسل حلو والسمن طعمه اعتيادي ولكن له شمٌّ ورائحة طيبة تأتي من عملية تبخير ادوات اللبن والسمن بدخان الصبر وغيرها ويطلق على هذه العملية اسم ( الشراي ) ووسيلته ( المشري) .
السمن في القرية، في ايامها الذهبية هو المصدر الرئيسي للدهون الطبيعية التي يحتاجها الإنسان إلى جانب شحوم الحيوانات من البقر والضأن والماعز.
فقد كنا نرى اجدادنا يحتفظون بهذه الشحوم من وقت إلى ٱخر بعد أن يجففوها ويملحوها ، فكان الحيوان الذي يكتنز الشحم هو الافضل عندهم من الذي يكون شحمه قليلا، لكن الٱن نجد الناس لا يفضلون المكتنز بالشحم، فهم يريدون المكتنز الاكثر باللحم، والكثير بستغني عن شحوم الحيوانات خاصة البقر، لاسيما بعد ان هددنا الأطباء بالويل والثبور من زيادة الكولسترول وبالجلطات وبمضار الشحوم او الدهون الحيوانية، ومع هذا تبقى الدهون ضرورة لجسم الأنسان ليستمد الجسم طاقته منها فتحترق أثناء الحركة والعمل، وكذلك كان ٱباؤنا وأجدادنا في الريف .
وقديما قال المتنبي:
اعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم في من شحمه ورم
وفي هذا دلالة على قيمة الشحم واهمبته.
أما السمن البلدي فقد كانوا يحتفظون به عاما بعد عام .
لم يكن الفرق بين العسل والسمن في القرية كبيرا، فعندما كانت القارورة السمن بعشرة شلنات، كانت القارورة العسل بعشرين شلنا اي دينار جنوبي ومع الأيام عندما صعد السعر صعدت قيمة العسل إلى مائتي شلن فكانت القارورة السمن بمائة شلن، وكان يعتبر هذا سعرا غاليا.
أما السليط فيأتي في الدرجة الثالثة، وكان يجلب إلى القرية من الأسواق، واقصد سليط السمسم أي الجُلجُل
فقد جاء في الأمثال! ( وهل انا رَفَدْتُكَ بسليط) ، فالرِّفد يكون عادةً بالسمن أو العسل، والذي لا يجد إهتماما من قبل أحدهم يقول له وهل رفدتك انا بالسليط يعني كأن الذي يرفد بالسليط أقل أهمية من الذي يرفد بالسمن او العسل، وهذا فيه تحديد لمكانة السليط.
أما الحقين أو الحقن فيأتي بعد هذه الثلاثة الأشياء، فهو اللبن الذي انتزعت منه الدهون.
وكثيرةٔ هي الأمثال التي تتعلق بالحقين، فقد قالوا (لا تطلب السمن من بيّاع الحقن) ، وقالوا ( وجه يخرج السمن ووجه ما يخرج الحقن) ، طبعا على أهمية الحقين في القرية فبه تصنع العصيد المُصَعّدة، والاسرة التي ليس لديها حقين أي التي ليس لديها بقرة حلوب يسمونها ( مقعزة) من القعزة، أي يعانون حالة جفاف وفقر من هذه الناحية فلا سمن ولا حقين، فتجد الأسر في القرية ترفدهم بالحقين وتتعهدهم به . الحقين في القرية بضاعة مشتركة لا يستأثر بها أحدٌ على أحد
مثلها مثل الماء والكلا والنار ،
فيوما لك ويوما عليك، فتجد الأطفال يحملون الحقين من مكان الى مكان ، ومحدثكم هذا طالما نقل الحقين إما من بيتهم إلى بيوت أخرى أو من بيوت اخرى إلى بيتهم، فالحقين هو شريان التغذية في القرية، فهو إدام للخبز ومنه تصنع العصيد وغير ذلك من الوظائف الغذائية.
لقد صارت القرية اليوم من غير حقين، لأنها صارت من غير بقر وصرنا كلنا نعتمد على بقرة هائل سعيد رحمه الله،غالية الأسعار، أو على على بقر الجيران الذين استنزفونا وجعلونا من غير عسل ولا سمن ولا سليط ولا حقين، ولكن كنا نحن السبب .
لم تعد هناك بقر في القرى، ستمر على قرى كثيرة خاويةً على عروشها من البقر، وبعض القرى قد تجد فيها بقرةً او بقرتين في الأكثر، وكذلك من غير تربية للدجاج والحيوانات الأخرى ومن غير حراثة للأرض وزراعة الحبوب المختلفة.
واضحينا جميعا في المدينة والريف ننتظر انفراج الخلاف بين العليمي وأحمد بن مبارك، لكي تتحسن الظروف وهذا هو العجز والوهم نفساهما .
إن أسوأ يوم في القرية كان عندما تجد القهوة أمامك صباحا بدلا عن الشاهي، فهذا يعني ان الأسود او الأبيض قد نفد أو كلاهما، فهذا يوم تَعَس فاذا استمرت التعُس فانك ستجد العصيد ظهراً من غير سمن فإما أن تجد سليطاً او حقيناً، وهذا غير مقبول خاصة للأطفال أما إذا جاء المساء من غير شاي على الخبز فهذا يعدّ من أتعس الايام.
اما الرز فإنه إلى وقتٍ قريب لم يكن وجبة معتمدة في الريف الجنوبي، فإذا طُبِخَ فمن باب الخورة كما يقولون، بين الوجبتين فلا يعدّ وجبة كاملة ،وكان يطبخ بطريقة بسيطة، وكانت جدتي رحمها الله من الذين لا يعتبرون الرز وجبةً على الإطلاق، فكانت تسميه(لسيسا) أي حبوب مفوُرة مثل حبوب الذرة والغربة وغيرها، فسريعا مايذهب من البطن بحكم العمل والأجواء الباردة، لكن ماذا لو كانت جدتي لحقت زمن الأندومي ورأت بعض الأطفال الذين لا يأكلون إلا الأندومي، فهل وصلنا الى أجيال هشة تعتمد على الأندومي وتترك الحبوب التى تنمي العظام وتربي الرجال وتقوي الامهات ؟
وكان حينما ينفد السمن على أمي لا تقول لنا نفد السمن ولكن تقول باقي الخير تفاؤلا فكنا نقول لها اعطينا من الخير!! فكانت تظهر لنا قاعة القدح التي فيها العصيد وهو اسود وتضع قليلا من القهوة فيه فيبدو مثل السمن فمنا من تنطلي عليه الحيلة ومنا من يكتشفها !!
أما حين يكون الزاد قليلا والسنة مجدبة فكانت رحمها الله توفر وجبة العشاء للصبوح أي الفطور ولكنها لا تعلن لنا ذلك فتوحي لنا أن الخبز ينضج في الموفى الذي كنا نسميه مافيا فنقول لنا ناموا وحين افتح الموفى واخرج الخبز سوف اصحيكم
وكان البعض منا يهدد بأن يذهب ويزبط الموفى حتى ينخسه احتجاجا على تاخر العشاء، وهكذا يغلبنا النوم وعند الصباح يحمد القوم السرى!!
كذلك كانت الامهات مدارس عظيمة!!