فاروق يوسف
الحب هو السبب
أحيانا تولد الموهبة في غير زمانها فتخذل صاحبها. لقد اختفت أسماء كثير من الرسامين في عصر النهضة الأوروبية، لأنها وقعت تحت ظلال الرسام رافائيل على سبيل المثال، كذلك الحال مع النحاتين الذين أخفتهم موهبة مايكل أنجلو.
وفي عصر الباروك عانى الكثيرون من عبقرية الرسام الهولندي رامبرانت. كم من الأصوات القوية سحقتها الفرنسية أديث بياف بصوتها الساحر؟
وإذا انتقلنا إلى الغناء العربي، سنرى أن ستينات القرن العشرين شهدت ظهور أصوات جميلة وقوية وعذبة لم يُتح لأصحابها أن ينالوا ما يستحقون من شهرة واهتمام بسبب وجود عبدالحليم حافظ. العندليب الأسمر الذي سرق قلوب الفتيات والفتيان، فصار ملكها على حد قول زميله فريد الأطرش "يا مالكه القلب في ايدك/ ده عيد الدنيا يوم عيدك". عاش حليم حياة قصيرة (1929 - 1977) لم يفارق فيها قلوب عاشقات وعشاق صوته.
لم يفكر أحد في ما فعله بالآخرين، وقد كانوا يحلمون لو أنهم نالوا جزءا صغيرا من ذلك الحب. وقد كانوا في حقيقة الأمر يستحقون أكثر.
وبسبب عدم قدرتهم على مجاراة عبدالحليم حافظ في صعوده، فإن الشعراء والملحنين لم يلتفتوا إليهم.
فغنى ماهر العطار "إفرش منديلك/ على الرملة/ وأنا ألف وأجيلك/ على الرملة"، وعبداللطيف التلباني "سكي الشباك/ أنا ما يحشنش عنك شباك/ وخيالي يقدر يوصلك/ من هنا لهناك"، ومحرم فؤاد "والنبي لنكيد العذال/ ونقول اللي معمرو انقال"، وكارم محمود "عنابي ياعنابي/ يا خدود الحليوه/ أحبابي يا أحبابي/ يا رموش الحليوه"، ومحمد رشدي "متى أشوفك أشوفك يا غايب عن عيني/ قتاله الغربة والله وابعادك عن عيني"، ومحمد قنديل الذي وصفته أم كلثوم بأن صوته هو أجمل الأصوات الرجالية في عصرها “يا حلو صبح يا حلو طل/ يا حلو صبح نهارنا فُل”.
وبالرغم من أنهم نالوا بعض النجاح في بداياتهم، أحيوا حفلات، مثّلوا أفلاما وتزوج البعض منهم قدر ما يستطيع كما حدث مع محرم فؤاد، غير أنهم سرعان ما رُكنوا جانبا في حين بقي صاحب "الهوى هوايا" في القمة إلى آخر يوم في حياته. وشهد يوم وفاته العديد من حوادث الانتحار لفتيات لم يصدقن أن الحياة ستكون ممكنة من غيره. المفارقة أن الخبراء يجمعون على أن صوت عبدالحليم كان ضعيفا قياسا بقوة صوت محمد قنديل وعذوبة صوت كارم محمود وشعبوية صوت محمد رشدي. غير أن ظاهرته الفنية المدوية كانت أكبر من المعايير العلمية التي يتبعها الخبراء. ظاهرة كان الحب عنوانها.