د. صبري العفيف
الأغنية الوطنية الجنوبية في مواجهة الوحدة اليمنية ((بمناسبة يوم الأغنية الوطنية الجنوبية 1يوليو ))
لقد شكل البعد الثقافي لدى شعراء وفناني الجنوب حصنا منيعا لحماية الوجود واستمرارية الانتماء الذي يمثل المحرق للوجود الإنساني والمنبع الأصيل لتعزيز الهوية، ولم تكن الأغنية الوطنية الجنوبية غائبة في حواضر ومدن الجنوب (عدن ولحج حضرموت أبين) عما يدور في الساحة من تطورات سياسية لاسيما في فترة التهيئة لمشروع الوحدة بين اليمنين منذ مطلع التسعينات حتى حدوث النكبة في صيف 94م.
إن المتتبع لموقف الأغنية الوطنية الجنوبية من مشروع الوحدة يرى أن صوت شعراء وفناني الجنوب تجلى وبوضوح؛ ليعبر عن موقفه من ذلك المشروع المشبوه، فقد استشرف الشعراء ملامح الغدر والخيانة من الطرف القادم من الجمهورية العربية اليمنية فنسجوا أجمل القصائد الغنائية المعبرة والرافضة لذلك المشروع وتدعو إلى رفضه ومقاومته.
وهي المرحلة التي تلت النكبة اليمنية على شعب الجنوب وما تلاها من ركود سياسي واقتصادي وفني وثقافي وفرضت سلطة صنعاء القوة العسكرية وعسكرت الحياة المدنية والثقافية في الجنوب وهنا لم يقف المنتفض والثائر الجنوبي مكتوف الأيدي أمام آلة الطمس والاقصاء والتهميش الذي يتعرض له الجنوب أرضا وإنسانا، بل عبر عن قضية شعبه بأكثر من وسيلة وكانت الأغنية الوطنية في مقدمة تلك الخضم الثوري المقاوم لقوى نظام صنعاء المستبد.
وفي هذه المقالة المتواضعة نقدم أبرز تلك الأصوات التي صدعت بصوتها في تلك الفترة المرحلية العصيبة التي مر بها شعبنا في الجنوب. فها هيا حاضرة الجنوب مدينة (المكلا) تصرخ بأعلى صوتها على لسان الشاعر الكبير أبو بكر حسين المحضار بأول قصيدة وطنية تحذر القيادة السياسية في الجنوب لاسيما في عام1989م حين اختير الشاعر حسين المحضار ضمن اللجان التي تشكلت بين الشطرين، لكونه عضو في مجلس الشعب الأعلى وأثناء تواجده في صنعاء كتب قصيدته ( قايس وعادك في النفس ) الرائعة الصيت وغزيرة المعاني ، وبعث بها الى السيد البيـض قال له فيها :
بالبحر محّـد يستهان
ما يستهـان إلا الجبان
لي ما يحسّـب للملامة
يفحس يساره عاليمان
ولعاد تنفعه التناهيـس
قايس وعادك في النفس
ماشي في الغبّة مقاييـس
لقد كان هذا الصوت الوطني الجنوبي الأصيل صادر عن وعي وطني وإحساس بالمسؤولية لاسيما أن المحضار عضو نيابي يمثل شعب الجنوب وقد كان صوته هذا معبرا عن مأساة قادمة على شعبه وهويته وأرضه، لكن الكبر والعناد لدى القيادة السياسية الجنوبية كانت في غفلة من تلك الأصوات ومضت في طريقها دون لم تُقايس ولم تعر أي اهتمام لما قاله المحضار.
لم يقف المحضار عند تلك القصيدة، بل بادر بالذهاب إلى مقر إقامة البيض ﻃﺎﻟﺒﺎً منه التأني ﻭﻋﺪﻡ ﺍﻟﺘﺴﺮﻉ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻮﻗﻴﻊ على الوحده، ﻭﺗﺮﻙ حريه ﺍﻟﺘﻨﻘﻞ بالبطائق ﺍلشخصية حتى ﻳﺘﻢ الاندماج ﺍﻟﻨﻔﺴﻲ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺸﻌﺒﻴﻦ ووضع أسس ضامنه لعدم انقلاب الطرف الآخر ..والتدرج السلس في الخطوات الوحدوية ﻓﻜﺎﻥ ﺭﺩ ﺍﻟﺒﻴﺾ ﻟﻪ ﺑﻜﻠﻤﺔ ( ﺩُﺭ ) لقد حسم الأمر ولا رجعة عنه.
وبعد أن وقع الفأس في الرأس , و تم الاعلان عن الوحدة، وبدأت الخلافات ثم الحرب، ونزح البيض إلى عدن ومنها إلى حضرموت، وأﺭﺳﻞ ﻣﺮﺳﻮل خاص لإﺣﻀﺎﺭ ﺍﻟﺴﻴﺪ ﺣﺴﻴﻦ المحضار إلى منتزة " الباغ " الذي كان يقيم فيه بغيل باوزير ﻟﻠﺘﺸﺎﻭﺭ معه .. ﻓﺮﺩ السيد ﺍﻟﻤﺤﻀﺎﺭ ﻣﻊ ﺍﻟﻤﺮﺳﻮﻝ بـ قصيدة ﺷﻌﺮية عنوانها( در أنا ما باك بدر) وﺳﻠﻤﺖ ﻟﻠﺴﻴﺪ ﺍﻟﺒـﻴﺾ شخصياً قال له فيها :
دُر انا ما باك در .. أنت يبست المنيحة الي تدر
ما قدر اتحملك ما قدر أو سكن أنا وأياك في دار
من خرج من طوع أهله با يصله اللوم و العار
سر كما ما شئت سر .. ماشي ما بيني و بينك اي سر
من مشى من غير سيّر ما يجي منه خبر سار
من خرج من طوع اهله با يصله اللوم و العار
ايش عادك تنتظر .. في الهوى مني وانا وش بنتظر
لا قبل ولا عاد منظر حد يلاقي نفع من ضار
من خرج من طوع اهله بايصله اللوم و العار
انت ع رأيك مصر .. حاسب أنك عود في شجرتك صر
انقطب ظهرك من الصّر و الذي قد صار قد صار
من خرج من طوع اهله با يصله اللوم و العار
وهناك صوت حضرمي صدع بأغنية (حبال الساعية) هو الفنان كرامة مرسال حين أنشد
حبال الساعية ربخت
غفل ربانها ما مكن المونة
وخلاها فريسة للهواء أن هبت الأرياح
جليس في غرفته مرتاح
وغيره ما غفل أو نام
لم تكن حضرموت لوحدها رافضة لمشروع الوحدة بل أن لحج القمدان المحروسة برجالها لم يقف خيال شعراءها وفنانيها صامتين بل صدعوا بأعلى أصواتهم، ففي مطلع التسعينيات، نظر شاعرنا الأستاذ المناضل/ علي مهدي عبيد محلتي نظرة استشرافية لمستقبل ذلك المشروع، فرأى ما لم يره الآخرون، ففي 25 سبتمبر من عام ١٩٩٠م نظم قصيدة بعنوان ( كل من يجلس على رأسه انتحر ،) وكان هناك صوتا وطنيا أخر لا يقل أهمية عن تلك الأصوات الثائرة .
إنه الفنان والربان والصوت الشجي المناضل / عبود الخواجة الذي صدح بأجمل ألحانه العذبة قدم تلك القصيدة في شهر سبتمبر من عام 90م في أحد حفلاته الفنية في مدينة كريتر.
وفي الأسطر التالية سوف نتناول أبيات تلك القصيدة المغناة بشرح موجز .
كل من يجلس على رأسه انتحر..
واللي ما صدق يجرب ذا الخبر .
بس لا يندم فما قد مر. مر
كل من يجلس على رأسه انتحر ..
في المقطع الثاني من القصيدة تطرق الشاعر إلى عدد من التنبيهات قائلا :
ذي حقائق ليه ما شي تسمعوا
فكروا يا قوم لا شي تقطعوا
نحن مش أصنام شوفونا بشر
كل من يجلس على رأسه انتحر..
في الأبيات السابقة أشار إلى حقيقة عدم الاستماع لصوت الشعب وطلب منهم التفكير والتأني في اتخاذ القرارات المصيرية التي يجب أن يشارك فيها عقلاء ومفكرو الشعب.
وفي قوله:
ضاقت الأحول فينا وانتهت
بعدما التمت تخادع من فلت
وانهزم من ظن فيها الانتصار
كل من يجلس على رأسه انتحر.
واستمر الشاعر في وصف المعاناة والصبر والتجلد في تحمل الإخفاقات السياسية قائلا:
صبرنا قد طال قلناها زمان
يوم جبتوا الشر قلتوا انه أمان
ليت كل من ثار في مهده اقتبر.
كل من يجلس على رأسه انتحر.
وفي المقطع الرابع ينتقل إلى لغة التحذير مستفهما عن تماديهم وعدم سماعهم لصوت الشعب وقبول الحقيقة قائلا:
كيف تتمادوا عسى من ترهبوا؟
ضاعت الحسبه كفى لا تحسبوا.
الصراحة انتو على الشعب الخطر .
كنت متاكد لما آلت إليه .
هذه الأحوال ما لا نرتجيه
صدقكم مفقود ماشي له أثر
كل من يجلس على رأسه انتحر.
وفي المقطع الخامس يعلن الشاعر موقفه الوطني ويصدح بصوته أنه لا ولن تستطع أي قوة أن تسكت صوته بل سيظل يصدح بقول الحقيقة في كل مكان وزمان حيث قال:
صوتنا مرفوع لا لن تكتموه
بانصرح به ولابد تسمعوه
شئتم ولا أبيتم يا غجر
كل من يجلس على رأسه انتحر.
وفي ختام القصيدة يكشف الشاعر الحقيقة التي ترمي إليها القصيدة ألا وهي أن الوحدة خلقت مشوهة لكونها ولدت ولادة غير شرعية رغم براءتها وطهرها لما تحمله من مضامين ومبادئ إنسانية إلا إن أبويها غير طاهرين. وتجسد ذلك المشهد في قوله:
بطن ذي (الوحدة) ظهر فيها الحبل
قبل عدتها خدعتم ذي احتفل
وانجبت طاهر وأهله مش طهر
كل من يجلس على رأسه انتحر..
ولم تكن عاصمة الجنوب عدن بعيدة من تلك الأصوات الغنائية الثائرة بل أنها كانت أكثر نداءا رغم الجرح والألم الذي أصابها عن غفلة فاهو شاعرنا المناضل محمد بن سعد عبدالله رحمة الله تغشاه صدع بأجمل كلمات وألحان ضد نتائج تلك الوحدة المشؤمة فكانت فاتحة هذا الطريق من خلال أغنيته الشهيرة (ما بيننا اسرار والخافي مؤكد بايبان) والتي كتبها ولحنها بعد الوحدة المشؤمة: يقول فيها:
الوقت دوار والأيام دواره
وأنا باقول اخباري لأن الوقت حان
ما خاف لو يمشوا على جسمي بحراره
كلام الصدق باقوله ودي بيكون كان
ما ريد راتب ولا مسكن وسياره
أريد الشعب ذا ينعم ويشعر بالأمان
الأمن مطلب أساسي شعبنا اختاره
نبا اليوم يتحقق ويظهر للعيان
ما با جنابي ورشاشات في الحاره
كفى خلوا البلد ترتاح واعطونا الضمان
وفي قصيدة أخرى بعنوان (با يذوق البرد من ضيّع دفاه) ..
ياللي خليتوا الأسد يخرج يثور
غركم بالمال زيدكم أجور
ويلكم من ذا الاسد لما يثور
لو غضب بايسويكم عشاه ..
هكذا للوحش بعتوني رخيص
ذلكم راحة رجالتكم فطيس
بالمباني رشكم والمرسديس
ساقكم بالأمر مشاكم قفاه ..
قبل مايبدأ تفاصيل الكلام
كلكم في ساع تقولوله تمام
ماتقولوا ذا غلط هذا حرام
ذي امنكم هكذا يصبح جزاه ..
الذهب الأحمر عماكم بالبريق
والتفتوا له وضيعتوا الطريق
ويلكم ياويل لو قلبي يضيق
باتشوفوا يوم ماشفته كماه ..
جزع الحيله عليكم وا رقود
قلكم لقد خرج مابايعود
كيف صدقتوا كلامه والوعود
ايش دراكم بذي قلبه نواه ..
وبوابة الجنوب أبين الباسلة كانت حاضرة بقوة وكان أغنية ( ماشي تغير فيك) للفنان محمد علي ميسري أكثر أثرا في مواجهة تلك الممارسات التي سلطها نظام صنعاء ضد الجنوب أرضا وإنسانا حيث يقول فيها:
ماشي تغير فيك ولا تبدل
هو ذاك هو زي أول
مريض يا مغرور شف من
يداويك الله يهديك
مما سبق تبين أن الأغنية الوطنية الجنوبية شكلت لوحة فنية غنائية موحدة في مواجهة سياسة التغريب والاستبداد الذي مارسته قوى نظام صنعاء ضد شعب الجنوب فتلك المختارات ما هي إلا قبسا مما نسجته الأغنية والوطنية الجنوبية في مواجهة مشروع الوحدة اليمنية الاستبدادي وفي الحلقة القادمة نقدم المزيد من ذلك الموروث الثقافي المناهض للقوى المستبدة أن شاء الله.
د: صبري عفيف العلوي