د عيدروس نصر النقيب
حول “الحراك السلمي الجنوبي”
من الحق القول أن الثورة الجنوبية السلمية في العام 2007م قد كانت تتويجاً لسلسلة طويلة من التحركات التي استهدفت رد الاعتبار للحياة السياسية الجنوبية التي أصابتها حرب 1994م بمقتل حينما حولت البلاد إلى ثكنة عسكرية والأرض وأهلها إلى غنيمة حرب بيد المنتصرين البغاة.
فحركة الرفض للحرب ومنتجاتها قد تولدت بعيد الحرب مباشرة، ولن أستغرق كثيراً في الحديث عن تجربة حركة موج وتجربة اللجان الشعبية أواخر التسعينات وحركات المقاومة المدنية في بما بيها انتفاضة المكلا في العام 1996م ثم تيار إصلاح مسار الوحدة اليمنية في الحزب الاشتراكي وتجربة حركة موج وحتم والنشاطات الفردية والجماعية للمبعدين السياسيين الجنوبيين طوال التسعينات و كل واحد من هذه التمظهرات عبر عن المتاح في تلك اللحظة كما عن الرؤية التي توصل إليها الرافضون لنتائج الحرب العدوانية.
كانت الفعاليات التي دعت إليها جمعيات المتقاعدين العسكريين والأمنيين الجنوبيين هي المنطلق للثورة السلمية الجنوبية، ومع ذلك لم يقر أحدٌ فرداً كان أو جماعةً تسمية ثورة 2007م بـ”الحراك الجنوبي” بيد إن التسمية جاءت عفوياً بعد تداولات إعلامية متصلة لظاهرة الاحتجاجات الشعبية السلمية التي اجتاحت معظم محافظات ومديريات الجنوب، وتلقفها العامة لتغدو اسماً لفعاليات الثورة السلمية الجنوبية.
وأتذكر يومها أنني كنت قد كتبت دعوةً إلى الإخوة القائمين على الفعاليات السلمية إلى تشكيل كيانٍ أو هيئةٍ سياسيةٍ جنوبية أو جبهة وطنية جنوبية عريضة توحد نشطاء الفعاليات السلمية حولها وتتولى رسم الأفق السياسي لمستقبل الحركة الاحتجاجية السلمية الجنوبية، خصوصاً وقد اتسعت تلك الحركة وغدت أوسع وأكبر من مطالب جمعيات المتقاعدين العسكريين الجنوبيين، والتي اقتصرت على المطالب الحقوقية لمتقاعدين، ثم تلاها تصاعد المطالبات كما هو معروف.
كانت مشكلة الكيان السياسي الجنوبي هاجسا لكثير من المثقفين والقادة السياسيين المنخرطين في الفعاليات السلمية وقد جاءت مبادرة تشكيل “حركة نجاح” وتلاها تشكيل “المجلس الوطني” ثم جاء لقاء التوحيد الذي كلف إدارة جماعية تتداول رئاسة المجلس بين قادة المحافظات، وأتذكر أن أول رئيس لهذه الهيئة القيادية كان عضو البرلمان الناشط الجنوبي صلاح الشنفرى رئيس فرع حرجة نجاح في محافظة الضالع، لكن العملية توقفت هنا حينما جاء تكليف طارق الفضلي برئاسة كل المكونات تحت اسم “مجلس قيادة الثورة” وما تلى ذلك من تداعيات غدت معروفة للجميع.
كل هذه التشكيلات لم تستمر طويلا لأسباب يطول الحديث فيها لكن أهمها تمثل في غياب البرنامج السياسي وأدواته التكتيكية والاستراتيجية، وتحديد مراحل الثورة وقواها الاجتماعية وأهدافها القريبة والبعيدة وحلفاءها وأنصارها . . إلخ.
والحقيقة إن شبه جملة “الحراك الجنوبي” حمل بعدين متناقضين بالنسبة للثورة الجنوبية السلمية، فمن ناحية جسد البعد الإيجابي الذي كان يعني أن الشعب الجنوبي قد توحد في ثورة عارمة شملت كل محافظات ومديريات الجنوب ترفض نتائج الحرب وتطالب باستعادة الدولة الجنوبية كاملة السيادة على حدود 21 مايو 1990م، ومن ناحية أخرى صار شبه الجملة هذا وعاءً فضفاضا لا تحده حدود ولا تحكمه هيئات ولا ضوابط ولا شروط فغدا كل من يهوى الثرثرة أو المشاغبة أو حب الظهور ينسب نفسه إلى “الحراك الجنوبي”.
ومع وجود القيادات المعروفة من المناضلين والضيوف الدائمين لسجون الأمن السياسي والمركزي والقومي والقادة الشجعان الذين لا يشق لهم غبار، صار بعض التافهين والهامشيين وأصحاب الأسماء الطارئة يقدمون أنفسهم لبعض المحطات الفضائية والمنابر الإعلامية بمسمى “قيادي في الحراك الجنوبي” بل لقد استغلت المنابر الإعلامية المعادية هذه الوضعية الفضفاضة لتخترع حراكها وقيادييها، ولم يكن لأحد أن يقول لأي من هؤلاء: توقف فأنت لست في الحراك، بفعل غياب الهيئات وغياب الضوابط وغياب معايير الانتماء، وباختصار غياب الجسم السياسي المعبر عن “الحراك الجنوبي”.
منذ ذلك الحين جرت مياه كثيرة تحت جسر الحياة الجنوبية، و”جاء السيل وشلَّ الغيل” كما يقول الفلاحون، إذ بعد حرب الغزو الثاني الإجرامية في 2015م نشأت المقاومة الجنوبية المسلحة وصار لدى الجنوبيين تحديات جديدة وأشكال جديدة للمقاومة، وبعد تشكيل المجلس الانتقالي ونشوء النواة الأساسية للجيش الجنوبي، واستمرار مخاطر الغزو، يغدو من يتحدث عن انتمائه إلى الحراك السلمي الجنوبي أشبه بالشاب الذي يريد العودة إلى مراحل الطفولة المبكرة وهو أمر لا يستقيم مع منطق الحياة ومعطياتها.
الساحة السياسية الجنوبية واسعة وفيها من الحيز ما يكفي لقيام مختلف أشكال الأنشطة والفعاليات والمكونات السياسية تحت معايير أساسية لا يمكن القفز عليها، كما إن اللغة العربية فيها من الاتساع ما يكفي لتشكيل ملايين الكيانات والمسميات السياسية، لكن التمسك بالمسميات الفضفاضة التي تغيب فيها المعايير الصارمة والتعريفات المضبوطة لا يعني سوى أحد أمرين: إما تخلف اللغة السياسية وافتقار قاموس القائمين على هذا النوع من النشاط إلى المفاهيم والمقولات السياسية الغنية بالمعاني والواضحة المعالم، وإما حالة من الاحتيال للهروب من الاعتراف بالفشل من خلال الاستظلال بهوامش من الزئبقية والهلامية التي لا تقدم شيئا مفهوما يخدم الحياة السياسية الجنوبية.
والله من وراء القصد.