د. عيدروس نصر النقيب
الجنوب لم يكن قط مجرد قرية
لي صديق يحمل شهادة الدكتوراه، لا يتردد بعد كل مقالة أو منشور أكتبه أو لقاء صحفي أو تلفيزيوني أجريه حول القضية الجنوبية عن إشهار هراوة التهكم والقذف والاتهام الذي يتقنه مع الكثيرين من أمثاله من خصوم القضية الجنوبية، متسائلاً: كيف لك أنت الاشتراكي والأممي أن تتخلى عن اشتراكيتك وأمميتك وتعود إلى المشروع القروي من خلال المطالبة بالانفصال؟
قصة المشروع القروي، أو مشروع "القرية"، كما يردده بعض الببغائيين، ليست جديدة ولا من صناعة صديقي هذا، فقد ترددت كثيراً لمواجهة حاملي القضية الجنوبية وأنصارها والمؤمنين بعدالتها بعد التقدم الذي شهدته خصوصا بعد قيام المجلس الانتقالي الجنوبي، وأصحاب هذا الهتاف "البائخ" يعتقدون أنهم يلجمون النشطاء السياسيين والإعلاميين الجنوبيين بهذه التهمة القميئة، لكنهم في حقيقتهم يسلكون ما تتضمنه المقولة العربية "رمتني بدائها وانسلت".
طبعا ليس من عادتي الرد على التعليقات الجوفاء والرسائل التهكمية التي تتعرض لمنشوراتي وكتاباتي عموما، لأن البعض يبحث عن دعاية مجانية أصنعها له من خلال التهجم عليِّ، وأنا لن أمنحه هذه الدعاية، لكن هذا الأمر ذكرني بأولائك السطحيين الذين يرتدون لباس المثقفين ويتقمصون أشخاص المتعلمين وهم أقل فهماً ووعياً وحتى أقل فطنةً من الكثير من غير المتعلمين.
لكل هؤلاء ولغيرهم نقول: إن الجنوب عندما دخل في مشروع وحدة دولتي جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية، لم يدخل كقرية ولا حتى كمدينة ولا محافظة، بل دخل كدولة، ودولة مكتملة الأركان والمؤسسات على مختلف المستويات، على الصعيد المدني والقانوني والحياة المؤسسية والاقتصادية والاجتماعية والخدمية والثقافية والسياسية والعسكرية والأمنية، ولن نناقش تلك الخزعبلات التي تقول إن الجنوبيين هربوا إلى الوحدة، لأن من يهرب من مكانٍ أو وضعٍ ما، يهرب إلى ما هو أفضل، وليس من الافضل إلى الأسواء، أما لماذا وقعت القيادة الجنوبية على مشروع "الوحدة اليمنية" ؟ فذلك سؤالٌ يمكن التوقف عنده بمزيد من التفاصيل واستكشاف ما فيه من عيوب وأخطاء وما ترتب عليه من تداعيات وكوارث في حيزٍ أوسعَ من هذا المنشور.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الاشتراكية والأممية هي منظومات فكرية وسياسية تنطلق من مبادئ الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية ومساواة الناس ببعضهم دون تمايزٍ أو تفضيل، وإن الأممي لا يمكن أن يقبل بالظلم والسلب والنهب والاغتصاب والهمجية والمستويات المتمايزة في المواطنة بين بني البشر.
ومن هنا على المتقولين والمتحدثين عن "القروية" أن يخرجوا "قرويتهم" من رؤوسهم ومن عقولهم الصدئة ويراجعوا التاريخ بشيء من التجرد ولو مؤقتاً، ليكتشفوا أن القاعدة التي يقفون عليها خاطئة وأنهم بحديثهم وهذياناتهم تلك لا يكشفون إلا عن أحد أمرين: إما عن سطحيتهم وعدم درايتهم بخلفيات القضية التي يتحدثون عنها، وإما عن نفاقٍ وتخرُّصٍ وادِّعاءٍ وتزويرٍ وتضليلٍ وافتراءٍ فجٍّ كل الهدف منه تأبيد نتائج الحرب والاجتياح والاحتلال الذي تعرض له الجنوب عام 1994م؛ وفي الحالتين فإنهم لا يخدعون إلا أنفسهم باعتقادهم بأنهم قد أقنعوا أبناء الجنوب بأن النهب والسلب والظلم والإقصاء والتهميش والقمع والحروب العدوانية التي تعرضوا لها على مدى ربع قرن، هي أفضل لهم من تمسكهم بمطلبهم المشروع في استعادة دولتهم بحدود 21 مايو 1990م، أما الشعب الجنوبي فقد حسم أمره واختار طريقه ولن يتراجع عنه، وما على هؤلاء المتقولين ومن يمولهم ويقودهم سوى تحديد كلفة الفاتورة التي سندفعها نحن وإياهم للاستجابة لإرادة هذا الشعب، ونتمنى أن تكون هذه الفاتورة عند أقل الحدود.