حين حل النظام الطائفي محل الدولة
فشل النظام الطائفي في لبنان والعراق في بناء دولة تقنع رعاياه بأنهم سيستعيدون يوما ما صفة المواطنة التي فقدوها.
كان اندثار الدولة في لبنان قد جرى تدريجيا وليس حزب الله في هيمنته هو وحده مَن عجل في انقراض الدولة، ولكن الفكرة نفسها لم تعد قابلة للحياة. ليس هناك ما يؤهل نظام الطوائف على مقاومة المتغيرات العالمية التي صارت تندس في حياة الفرد بخفة وسرعة ودعة وبأرخص تكلفة، بحيث لن يكلف المرء نفسه عناء السفر ليتعرف من خلاله على حواس المواطنة التي لا تُباع انما تُستعار مجانا.
اما في العراق فقد يسر المحتل الأميركي عملية الانتقال من زمن الدولة إلى زمن الطوائف والقبائل والعوائل في ظل انتشار غير مسبوق عالميا للسلاح غير القانوني الذي صار من العبث أن يُذكر الفرد بمواطنته في مواجهته. نداء من ذلك النوع سيكون عدميا. ذلك لأن العراقيين فقدوا مواطنتهم في ظل وجود الدولة القمعية التي أحلت فكرة الرعاية محل مبدأ المواطنة. حدث ذلك بسبب الجنوح في اتجاه الغاء الحقوق واشاعة مبدأ التفاضل بين الأفراد على أساس ولائهم للقائد والحزب والثورة. لذلك فقد كانت لحظة اسقاط النظام والغاء الدولة بمثابة رصاصة الرحمة التي أطلقت على المواطنة. أما أن تبقى الطبقة السياسية الحاكمة التي لم تتغير طوال تسعة عشر سنة عاجزة عن بناء دولة أو على الأقل استعادة شبح تلك الدولة التي محاها الأميركان فإن ذلك أمر لا يرتبط بإرادة خارجية حسب بل وأيضا بوضع داخلي تسوده الفوضى ولا يسمح له الفساد بأن يعطي أية اشارة أمل.
بالنسبة لنظام الطوائف فإن الدولة صارت من الماضي. فالدولة تقود إلى التفكير في المواطنة ولابد أن تقود المواطنة إلى العصيان. حتى وإن كانت الدولة قمعية فإن مواطنيها يعتصمون بالقوانين دفاعا عن حقوقهم التي يعرفون أنها لن تُستعاد. لكن ميزة الدولة القمعية تكمن في ما يتمتع به رعاياها من أمان بشرط أن لا يتدخلوا في السياسة ولا يصطدموا بتوجهاتها.
اما النظام الطائفي فإنه بعد أن يمزق النسيج الاجتماعي ويمحو هوية المواطنة يسلم الرعايا إلى مصائرهم الفردية إلا إذا كانوا من خدمه وفي هذه الحالة فإنهم لا يملكون وجها بل يضعون الأقنعة خشية أن ينكشف ذعرهم مما يفعلون. ما شهده لبنان من أزمة مالية كان يمكن أن لا يحدث لو كانت هناك دولة تقبض بيد قوية على دورة المال في البلد. ولكن حزب الله وهو طرف في الحرب السورية وممثل رسمي للمرشد الأعلى الإيراني كان قد استلب إرادة المصارف عبر تحويلات، خارجة وداخلة لم تكن جزءا من الدورة المالية غير أنها اربكتها بل وحطمت استقرارها وقدرتها على أن تستعيد أنفاسها.
وفي العراق فإنه لا أحد في إمكانه أن يوقف بيع العملة في البنك المركزي كما لو أنه لا يتبع الدولة في قوانينها. لعبة تقع خارج السيطرة. ولكن الدولة ليست موجودة. هناك خوف حقيقي من إمكانية قيام دولة مهما كان نوعها. المؤسسات التي تعمل من أجل تصريف شؤون الشعب ليست سوى هياكل فاسدة. لقد تم تطبيع الفساد وصار ثقافة اجتماعية. يمكنك أن تقول أن ما تكرسه الميليشيات من حجج ضد الدولة صار جزء من الثقافة التي صار من الواجب تعميمها. من ذلك أن العراق لم يكن قائما قبل الاعلان عن ولادة الدولة العراقية الحديثة عام 1922. وهنا يكمن سر احتفال الحكومة بمئوية الدولة العراقية. شيء مؤلم ولكنه يعبر عن حقيقة النظام الطائفي الذي يعبث بالتاريخ لأغراض بغيضة.
الآن من المستعبد أن تتماهى اللبننة مع المواطنة. كان اللبنانيون في ما مضى يفخرون بلبنانيتهم التي لو أمعن المرء النظر فيها لأكتشف البعد الطائفي فيها ولكنها كانت تقدم الحقيقة. حقيقة لبنان بتعدده وتنوعه. اليوم ليس هناك لبنان ليفخر به اللبناني ولا لبناني ليكون سببا لبقاء لبنان واحدا. لقد حطم حزب الله لبنان وهمش اللبنانيين.
اما العراقيون فإنهم لن يتحسروا على العراق التاريخي فهو لم يعد ملكهم ولكن ماضيهم القريب قد تم تزييفه. لم يعد العراقي عراقيا ولم يعد العراق قادرا على استيعاب حلم سكانه بالمواطنة. هل باتت العلاقة حلمية؟ لقد ذهبت الدولة إلى غيابها وليس هناك ما يشير إلى ولادتها من جديد. فهل سيحل النظام السياسي بكل فوضاه محل الدولة؟