البنك المركزي بين مطرقة الانهيار وسندان الفساد
د. قاسم الهارش
الزيارة التي قام بها الزميل الصحفي فتحي بن لزرق للبنك المركزي اليمني ولقاؤه بمحافظ البنك لم تكن مجرد...
لا شيء أشد خطرًا على الأوطان من شعبٍ يُسلّم وعيه لغيره، وينقاد خلف قيادات لا ترى أبعد من مصالحها. فالتاريخ اليمني، القريب منه والبعيد، مليء بالشواهد التي تؤكد أن الولاء الأعمى، سواء لحزب أو زعيم أو شعار، لم يورّث البلاد إلا الدم والفوضى والانهيار.
في هذا المقال، نقف أمام مشاهد من الماضي والحاضر لنتأمل كيف تُصنع الكوارث حين يغيب العقل الواعي، وكيف يُدمَّر الوطن باسم الوطنية، من خلال ثلاثة نماذج من الانقياد الأعمى دون وعي بعواقبه:
النموذج الأول: الوحدة اليمنية
أُعلنت الوحدة اليمنية بين نظامين سياسيين متناحرين، خاض كل طرف فيهما حروبًا ضد الآخر، وانتهت تلك الوحدة بصراع دموي في أحداث عام 1994م، بين الحزب الاشتراكي اليمني من جهة، والمؤتمر الشعبي العام مدعومًا بالتجمع اليمني للإصلاح من جهة أخرى، حيث كان الإصلاح فاعلًا رئيسيًا في الإطاحة بالحزب الاشتراكي. وقد نُزف فيها الدم اليمني، وترتبت عليها لاحقًا سيطرة حزبي المؤتمر والإصلاح على البلاد. وكان الجنوب آنذاك محلًّا للنهب، وتفكيك مؤسسات الدولة، بل تم القضاء على أكثر من مائة مؤسسة مدنية، إلى جانب استهداف الجيش الذي كان يضم عددًا كبيرًا من أبناء الجنوب، وكأن خطأ الساسة وهزيمتهم لا بد أن يتحمّله المواطن والجندي، رغم أن مهمة الجندي تنفيذ أوامر من يحكم بلده.
صحيح أن الجندي يجب أن يكون ولاؤه لله ثم للوطن، لكن أولئك الساسة غرسوا فيه الولاء لأشخاصهم، لا لله ولا للوطن. وما زال هذا الواقع مستمرًّا حتى اليوم؛ وإلا، فماذا يعني أن يكون الجندي لا يرى الأوامر إلا من قائده، لا من رئيس مجلس الرئاسة مثلًا؟ واليوم، أصبح الوضع أكثر تعقيدًا، خاصة بعد سيطرة الحوثي على العاصمة السياسية لليمن، ووقوع أغلب سكان الشمال تحت سلطته. الحوثي ومن خلفه الزيدية لن يسلّموا قيادة اليمن إلا لمن هو على شاكلتهم، حتى وإن أظهر ولاءه لحزب يتبنّى نظامًا سياسيًّا غير مذهبي، ما دام قادته من أصول زيدية. لذا، على أبناء الجنوب وحضرموت إعادة النظر في الوحدة مع الزيدية، بعد أن تحوّل مذهبهم من فقه عقدي إلى مشروع سياسي عقائدي.
النموذج الثاني: ثورة الشباب وسقوط الوعي
ما حدث ممن قادوا "ثورة الشباب والتغيير" يُعد نموذجًا آخر للانقياد الأعمى، حيث قادت الأحزاب السياسية البلاد إلى الخراب والدمار، بل إلى حربٍ أصابت آثارها كل بيت يمني، دون تمييز بين صغير وكبير، أو ذكر وأنثى، تحت شعار إسقاط النظام. ثورة قادتها أحزاب سياسية طائشة لا تفكّر إلا في مصلحة قادتها؛ نعم، قادتها نالوا حياة كريمة، بينما أتباعهم والشعب يعانون ويلات حرب الخدمات، ومشكلات العملة، وضيق العيش. لقد قادوا اليمن دون رؤية سياسية أو اقتصادية أو أمنية تحمي المواطن من التبعات التي قد تحدث في حالة سقوط النظام. وأحزاب ترفع شعار إسقاط الدولة لا تدرك ماذا تعني الدولة، ولا كيف سيُعاد بناؤها. ثم يأتي من يريد من الشعب، مرة أخرى، أن يحتضن رموز وقادة تلك الأحزاب التي دمّرت وطنهم، رغم ما فيه من ضعفٍ وألم!
النموذج الثالث: حضرموت بين المكونات والمجهول
أما الوضع السياسي الحضرمي اليوم، فهو منقسم بين مكونات حضرمية ذات التوجهات السياسية المتعددة، فهناك من يطالب بدولة حضرمية لكن لم يضع لها رؤية واضحة، ولم يعمل على وحدة النسيج الحضرمي، ولم تخضع أرض حضرموت تحت إدارة أبنائها أمنيًا بعد؛ وهناك مكون حضرمي جنوبي يتبنى فكر المجلس الانتقالي الجنوبي، له رؤية واضحة؛ وهي استعادة دولة الجنوب بحكم فدرالي لكل محافظة، لمعالجة رواسب الماضي الذي مارسه الحزب الاشتراكي اليمني في حقبة تاريخية خلّفت شرخًا عميقًا في النسيج الاجتماعي، لا سيما في حضرموت وشبوة والمهرة، ما جعل مشروع المجلس الانتقالي يواجه مقاومة في حضرموت حتى توجد ضمانات دولية وإقليمية بعدم تكرار أحداث الجبهة القومية للتحرير. وهناك مكونات حضرمية تتبع اليمن الواحد ذات بعد حزبي، كمن ينتمي لحزبي التجمع اليمني للإصلاح، أو المؤتمر الشعبي العام، لديهم رؤية مشروع الحوار الوطني الشامل، وتقسيم اليمن إلى ستة أقاليم.
كذلك، لا توجد رؤية سياسية واضحة لدى حلف قبائل حضرموت، الذي ينادي بالإدارة الذاتية، فهو لم يعمل حتى الآن على توحيد الكيانات الحضرمية ذاتها، ولا عمل على تحرير الوادي الذي يخضع تحت سيطرة قوات الجيش الذي ينتمي أفراده لمناطق سيطرة الحوثي، وإن كان شعارهم الشرعية اليمنية. لهذا لا بد أن تسبق شعار الإدارة الذاتية خطوات مهمة تجعل الشعار مقبولًا ومنطقيًا، لهذا يجب أن يكون مشروع حضرموت جامعًا لكل أطياف المجتمع الحضرمي دون استثناء، فالشعارات وحدها لا تحقق الغايات.
وختامًا:
إن حضرموت، بما تملكه من تاريخ عريق وثروة اقتصادية، لا تستحق أن تُترك رهينة شعارات زائفة أو مشاريع غامضة. آن الأوان لأن يُبنى مشروع وطني حضرمي جامع، يستند إلى رؤية واضحة، ويمتلك أدوات التغيير السلمي والمنطقي، بعيدًا عن التبعية والانقياد. فالمستقبل لا يُصنع بالهتاف، بل بالوعي والعمل. وليكن شعار المرحلة للحضارم: حضرموت أولًا... لا بد أن يُصاغ مشروع حضرمي لا يُقصي أحدًا فيه، ولا تُختزل حضرموت في أشخاص؛ يجب أن تكون حضرموت لكل أبنائها، لا لتبعية أو الاختزال.
ملاحظة: [سوف تكون لي وقفات متعددة مع الغباء السياسي الذي نجني مرارته هذه الأيام عبر موقع وكالة أنباء حضرموت].
حفظ الله اليمن، جنوبه وشماله، وحضرموت، من كيد الساسة، ومن يصفق لهم دون وعي، وأعاد الرخاء للبلاد.