د. عيدروس نصر النقيب
بعيداً عن التشنج .. لنأخذ القضية كما هي
هناك محاولات لتعتيم اللوحة الحقيقية لما تسير عليه الأمور في الجنوب، الذي يسمونه بــ”الأراضي المحررة” أو اجتزاء تلك اللوحة وتشويه حقيقتها، من خلال النواح على “دولة الوحدة” وما يسمونه بــ”السير باتجاه الانفصال” عبر مشاركة المجلس الانتقالي في السلطة الشرعية وما يشكله من “خطر” على ما يسمونها بــ”الدولة الوطنية” المزعومة، فيقولون إن المجلس الانتقالي الجنوبي يتسلل من خلال مشاركته في السلطة لتهيئة الوضع لإعلان الانفصال والقضاء على “الدولة الوطنية”، ولن يفوِّت هؤلاء الفرصة للحديث عما يسمونه “خدمة المشروع الحوثي” كما ظلوا يرددون دائماً عن “عمالة” الحراك الجنوبي ثم المجلس الانتقالي لإيران، حتى بعد أن تفرد الجنوب وحراكه السلمي ومقاومته المسلحة ومجلسه الانتقالي بالهزيمة الوحيدة للمشروع الإيراني في كل المنطقة العربية حيثما تنتشر الأذرع الإيرانية كالسرطان.
وقبل مناقشة هذه الترهات لا بد من الإشارة إلى قضيتين أساسيتين في ما يتعلق بمشاركة المجلس الانتقالي في حكومة ما يسمى بـ”المناصفة” ثم في “مجلس القيادة الرئاسي”:
فأولاً: ليس كل الجنوب والجنوبيين راضين عن انخراط المجلس الانتقالي، (باعتباره القوة الجنوبية الرئيسية المعبرة عن قضية شعب الجنوب)، أقول ليس الكل براضٍ على انخراط المجلس في هيئات السلطة الشرعية لأن هذه السلطة هي غريم للشعب الجنوبي وهي ممثل تنفيذي لغزاة 1994م و2015م ولم تنفك أطرافها ولن تنفك عن التمسك بسياساتها العدائية تجاه الشعب الجنوبي.
وثانياً: لقد برهنت تجربة حكومة المناصفة بالدليل الملموس بأن مشاركة المجلس الانتقالي وبقية القوى الجنوبية في هذه الحكومة لم تحدث أي تغيير لرفع المعاناة عن الجنوبيين وتخفيف الأوجاع الجنوبية التي تسببت بها الحكومات المسماة بـ”الشرعية” خلال كل الفترة الممتدة منذ ما قبل 2011م و2015م حتى يوم الناس هذا، ومن ثم فإن مشاركة المجلس في تركيبة “مجلس القيادة الرئاسي” لم يخدم قضية الجنوب في شيء، وبالتالي فإن عدم الرضى عن هذه الشراكة له ما يبرره ولم يأتِ عبثا، خصوصاً وإن هذه الشراكة قد عمقت من تمكين القوى المناهضة للشعب الجنوبي ومشروعه الوطني التحرري الذي لا يستنكره إلا الحمقى أو من أصابهم العمى السياسي فحال دون رؤيتهم للحقائق الماثلة على الأرض.
أما التباكي على “وحدة الوطن” وعلى “الدولة الوطنية” التي لم يعد لها وجود ولا فعل إلا ما يشبه صوت الدولة فقط، وعلى أرض الجنوب فقط، هذا التباكي لا يختلف عن قصة تباكي “النائحة المستأجرة” المعروفة في الفولكلور العربي، حيث أصبح هؤلاء المتباكون يضيفون إلى أسباب نواحهم هذا رداءة الخدمات ومعاناة المواطنين الجنوبيين، متهمين بذلك المجلس الانتقالي الجنوبي وهم يعلمون أنه براء من كل هذه الحروب المعلنة على الجنوب والجنوبيين.
وبعيداً عن التشنج والتلاعب بالمشاعر والألفاظ وفي سبيل استجلاء الحقيقة التي يتهرب المتباكون من الإقرار بها، فإنه يمكن تلخيص مضمون اللوحة في المعطيات والحقائق التالية:
1. إن الدولة التي يتحدثون عنها ينحصر حضورها (كما قلنا) على أرض الجنوب بقادتها والجيش الجرار من موظفيها الذي لا يفعل شيئاً سوى تقاضي المرتبات والتهام موارد البلاد وتخريب الخدمات وتوسيع دائرة الفساد على أرض الجنوب وعلى حساب حياة أبناء الجنوب.
2. لقد ظل الجنوب مستبعداً طوال ربع قرن من الوظيفة العامة، وتقلصت حصة الجنوبيين من الوظيفة التنفيذية إلى أدنى مستواها طوال فترة ما بعد حرب 1994م وحتى ما بعد تحرير الأرض في 2015م، في حين جرى إحلال مئات الآلاف من أنصار حرب 1994م من الوافدين مما وراء الشريجة وعوين، كبدلاء للعاملين الجنوبيين والموظفين الذين تم إقصاؤهم من وظائفهم وأعمالهم بقوة السلاح.
3. إن أفراد هذه الآلاف المؤلفة من الوافدين هم اليوم من يدير حرب الخدمات وسياسات التجويع على أبناء الجنوب، وهذا يمكن أن يكون أحد الأسباب في فشل وزراء الانتقالي وأنصاره في إحداث تغيير ملموس لرفع المعاناة عن المواطنين الجنوبيين العائشين في المناطق التي يقولون أنها “محررة”.
4. لقد قامت حكومة معين عبد الملك باستقطاب عشرات الآلاف من الموظفين الجدد من أبناء مناطق هيمنة الحوثيين وإضافتهم إلى الذين سبق تجييشهم بعد 1994م، وبذلك أصبح الجنوبيون في وظائف الحكومة، في محافظاتهم أقل من الأقلية الضئيلة وجزءٌ غير هين من هذه الأقلية ولاؤهم لأحزاب الغزو التي أتت بهم ومكنتهم من هذه الوظائف ولا علاقة لهم بالولاء الوطني للجنوب ولا حتى للشمال.
5. إن الإقصاء والاستبعاد الذي تعرض له المواطنون الجنوبيون بعد حرب الغزو الأولى لا يعوضه عشرة أو عشرون أو حتى ألف أو ألفان ولا عشرات الآلاف من الموظفين الجنوبيين أصحاب الأرض والحاضنة الاجتماعية والثروة، بعد عملية التجييش على الوظائف الحكومية القيادية والعادية التي تلت حربي 1994م، 2015م، ومن أغرب الغرائب أن نسمع ولولات المولولين ونواح النائحين المحذرين من خطورة تعيين أربعة أو خمسة موظفين في وزرارت يتحكم فيها المئات والآلاف ممن جرى حشدهم من المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين.
وملخص القول إن هؤلاء المتباكين على “الوطن”، و”الشرعية” و”الدولة الوطنية” يريدون من الجنوبيين أن يكونوا شركاء في الشرعية، لكن في الحروب فقط وفي تقديم الشهداء وتحرير مناطق الشمال بعد أن حرر الجنوبيون أرضهم في أقل من مائة يوم، وعجزت النخبة الشمالية عن حشد ألف أو ألفي مقاتل في كل دائرة انتخابية من الناخبين الذين منحوا أصواتهم (أو سُرِقت أصواتهم) لصالح النواب الشرعيين المؤتمريين والإصلاحيين، عام 2004م، وبتعبير آخر يريدون من الجنوبيين أن يكونوا شركاء في الخسارة ممنوعين من ممارسة حقهم في الوظيفة الحكومية.
وينبغي أن نلاحظ أن النزاع ليس على إدارة صنعاء أو تعز أو ذمار أو صعدة أو حتى مأرب والحديدة، بل إنهم ينازعون الجنوبيين على إدارة أرضهم، أما أراضي الشمال ومحافظاته فليس لديهم مانعٌ من أن تبقى تحت هيمنة وإدارة الحوثيين فهم أشقاء وأبناء البلد.
هل رأيتم فجاجة وانعدام حياء أكثر من هذا؟؟!!
كل ما أشرنا إليه في هذه العجالة لا يمنعنا من التمسك بالنصيحة التي قلنا مراراً ونقولها للإخوة في قيادة المجلس الانتقالي:
“إما شراكة تمكِّن الجنوبيين من إدارة أرضهم وترفع عنهم المعاناة وتحفظ لهم عيشهم بكرامة وحرية وأمان وحد أدنى من الاستقرار المعيشي على أرضهم التي حرروها بدماء وأرواح أبنائهم، وإما لا شراكة على الإطلاق”.
كما لا يمنعنا هذا من تحذير الإخوة في قيادة الانتقالي من خطورة بعض السلوكيات والممارسات المدينة لبعض المحسوبين على المجلس، مما يلحق الضرر بسمعة القيادة الجنوبية ويخسرها بعض انصارها ويصب في صالح خصوم القضية الجنوبية في الشمال والجنوب على السواء.
أما الحديث عن تحرير العاصمة ودحر الانقلاب فلدى كاتب هذه السطور مجموعة من الآراء المقترحة سأتناولها في وقفة قادمة بمشيئة الله.
فإلى اللقاء وكل عام وأنتم بخير أيها القراء والمتابعين الأعزاء!