هيثم الزبيدي

قائمة الانتقام الإيراني طويلة ولكنها محدودة

وكالة أنباء حضرموت

على الورق، تبدو قائمة الأهداف التي يمكن أن تستخدمها إيران للرد على الهجوم الإسرائيلي على قنصليتها في دمشق طويلة. هناك الكثير من القنصليات والسفارات الإسرائيلية في المنطقة الممتدة من أذربيجان إلى قلب الخليج والشرق الأوسط. الترسانة الإيرانية الكبيرة من الصواريخ البالستية والمسيرات يمكن أن تستهدف الكثير من الأهداف العسكرية الإسرائيلية في إسرائيل نفسها أو في المناطق الرمادية التي تتواجد فيها إسرائيل، مثل الجزء المحتل الذي تم ضمه من هضبة الجولان السورية أو مزارع شبعا. قد تكرر طهران جريمتها في أربيل مطلع العام الجاري عندما استهدفت الأبرياء من العراقيين بحجة مختلقة تدّعي وجود مركز للموساد في كردستان العراق، أو تستهدف قواعد وأهدافا أميركية كثيرة في المنطقة بحجة التحالف المفتوح بين إسرائيل والولايات المتحدة. المشكلة تكمن في أن أيّا من هذه الأهداف لن يحقق لها الغاية بأن تستعرض قوتها في الإقليم وتمنع هجمات إسرائيلية أو أميركية مشابهة.

خيارات توجيه الأوامر للميليشيات الموالية لإيران للقيام بالهجوم نيابةً عن طهران تبدو إشكالية. على الطرف الجنوبي من البحر الأحمر وصل الحوثي إلى أقصى ما يمكن أن يفعله دعما لإيران. لا تزال المسيّرات والصواريخ الحوثية تستهدف السفن والناقلات في البحر الأحمر وخليج عدن، لكن فكرة أن يكون اليمن قاعدة لاستهداف إسرائيل مباشرة تبدو عصية على التنفيذ. لو تحركت ميليشيات الحشد الشعبي واستهدفت إسرائيل أو القوات الأميركية في المنطقة، ستكون الحكومة العراقية أول المساءَلين: وحدة الساحات التي تتحدث عنها إيران هي منطق خطر، لأن إسرائيل والولايات المتحدة يمكن أن تعلنا عن توحيد ساحاتهما بدورهما، وتعتبرا ما يحدث انطلاقا من العراق أهدافا مشروعة لهجماتهما.

بقي خيار حزب الله. يرتبط هذا الخيار بأسئلة أهم: هل حان الوقت الذي تزج فيه إيران بحزب الله في حربها مع الغرب وإسرائيل؟ ما هي العواقب؟ هل يستحق دم الجنرال علي رضا زاهدي التضحية بحزب الله وبسيطرته على لبنان؟ بدخول حزب الله المواجهة المفتوحة، سيطوي الغرب ملف سمعة إسرائيل السيئة واستهدافها الإجرامي للمدنيين الفلسطينيين في غزة وقتلها لموظفي الإغاثة الأجانب، وينظر إلى الحرب الدائرة في غزة على أنها جزء من حرب إقليمية واسعة تقودها إيران لانتزاع السيطرة على المنطقة من أيدي حكوماتها ومن داعميهم الغربيين. ما نسمعه من تصريحات من قادة الميليشيات العراقية وحماس عن الأردن يعزز هذا الاعتقاد.

الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق لحظة حاسمة في تشكيل تاريخ المنطقة. لا يمكن الاستهانة بما حققته إيران من انتشار ونفوذ في المنطقة منذ انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية عام 1988، وانكسار العراق في حرب تحرير الكويت عام 1991 واحتلاله واستلام السلطة في بغداد من قبَل حكومة موالية لإيران ابتداء من عام 2003. أي مراقب موضوعي سيقول إن إيران اليوم إمبراطورية، بنفوذ يمتد من جنوب الخليج في اليمن، وسيطرة شبه مطلقة على العراق، وتواجد على البحر المتوسط عبر تحالف مع النظام السوري وسيطرة على لبنان من خلال حزب الله، دون نسيان أن غزة نفسها تطل على المتوسط من حافة إسرائيل الجنوبية وهي إلى حد الساعة لا تزال تحت سيطرة أو رحمة حماس، الحليف المخلص لإيران. وفيما عدا الأردن، بكل القلق الذي يصاحب هشاشة تركيبته السكانية ومشاكله الاقتصادية، تبدو منطقة الهلال الخصيب التاريخية تحت السيطرة الإيرانية المباشرة أو شبه المباشرة.

 لكن هذه اللحظة الحاسمة قد تكون النقطة التي يفهم منها أهل المنطقة حدود القدرات الإيرانية. لا شك أن إيران قوية. هي القوة الأهم تسليحا الآن في منطقة الشرق الأوسط بلا منافس إقليمي، بعد خروج العراق من معادلة التوازن الإستراتيجي. السعودية ليست بوارد التنافس مع إيران بعد دروس حرب اليمن والهجمات على منشآت أرامكو في بقيق وخريص. بقية الخليج مهموم بأمنه الذاتي. مصر تحافظ على مبدأ “مسافة السكة” اللفظي دون أي محاولة لجعله فكرة عملية. لكن هذا الضعف العربي الذي يستثير شهية إيران، لا يوفر لطهران فرصة بسط النفوذ الكامل على المنطقة؛ فأمامها قوتان أكبر وأهم: الولايات المتحدة وإسرائيل.

إسرائيل تحارب اليوم في غزة وتنتقم من حماس. لكنها تعرف أن عدوها الحقيقي هو إيران. ليس لأن إيران تريد تحرير فلسطين، بل لأن إيران تريد الاستيلاء الكامل على المنطقة. الصراع بين إسرائيل وإيران هذا أساسه مهما تحدث النظام الإيراني عن أن “الطريق إلى القدس” تمر بكربلاء حينًا وبدمشق حينا آخر وبصنعاء أو بيروت أحيانا أخرى، ومهما تحدث الإسرائيليون عن سلام وتطبيع وعلاقات هادئة مع الجوار. ما تخشاه إيران ليس القوة الإسرائيلية الغاشمة التي تستهدف الأبرياء والمباني في غزة، بل قدرة إسرائيل على توجيه ضربات مؤذية حاسمة ضد مشاريع إيران الإستراتيجية مثل تعطيلها أو تفجيرها منشآت نووية وعسكرية إيرانية، أو اغتيال الخبراء واستهداف قادة الحرس المفصليين وتوجيه ضربات دقيقة لقادة سياسيين وعسكريين موالين من حماس وحزب الله. العجز الإيراني المرتبط بفارق الإمكانيات يزداد وضوحا كل يوم. انظر إلى الطريقة التي استهدف بها الإسرائيليون نائب رئيس حماس صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت معقل حزب الله، أو دقة الصواريخ التي دمرت مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق من دون أن تمس أبنية السفارة الملاصقة له. زد على ذلك أن إيران أو أيّا من حلفائها لم يتمكنوا إلى اليوم من استهداف قادة إسرائيليين كبار (أو أميركيين في سياق الرد على اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي أبومهدي المهندس في بغداد).

أضف إلى ذلك فارق السمعة. سمعة الإسرائيليين اليوم بالحضيض، ولكن ما هو وضع سمعة إيران. من الطريف أن تشتكي إيران من استهداف مقر دبلوماسي لها في دمشق. النظام الإيراني بدأ عهده باحتلال السفارة الأميركية في طهران، واستهدفت تنظيمات موالية له سفارات العراق والولايات المتحدة في بيروت والسفارة الإسرائيلية في بوينس آيرس. ثم إن السفارات والقنصليات مقرات لدبلوماسيين مدنيين. ماذا يفعل جنرالات إيرانيون من الحرس الثوري ومسؤولون من حزب الله في مبنى دبلوماسي في دمشق؟

القوة العسكرية الأميركية لا تقارن بأية قوة أخرى في العالم. تستطيع الولايات المتحدة أن تستنزف روسيا في أوكرانيا مثلا بمجرد إرسال فارق مخزونات الأسلحة الأميركية إلى القوات الأوكرانية. وتتقدم واشنطن تكنولوجيّا على كل منافسيها بأجيال. وتمتلك من القدرات الاستخبارية والبشرية والتقنية ما يمكنها من التقاط وتصفية القيادات المشاكسة: صدام حسين، وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وأبوبكر البغدادي وخلفائه من داعش، وأنور العولقي ومن خلفه من القاعدة، وسليماني والمهندس من بين قائمة أطول.

مشكلة الولايات المتحدة تكمن في التشوش السياسي لقادتها وسوء تقديراتهم. ولعل تاريخ الحضور الأميركي في الشرق الأوسط مليء بالمطبات وانعدام الرؤية لدى الرؤساء؛ من تخلي جيمي كارتر عن نظام الشاه، إلى إسقاط جورج بوش لنظام صدام حسين، إلى غفلات باراك أوباما في مواجهة الربيع العربي أو توقيع الاتفاق النووي مع إيران، إلى صمت دونالد ترامب على ضرب السعودية، وصولا إلى تذبذب السياسة في عهد جو بايدن.

والآن أضف إلى ذلك أن قادة المنطقة، وخصوصا في الخليج، لا يثقون بأن هناك سياسة أميركية متسقة يمكن البناء عليها مستقبلا على الرغم من الاعتماد الإستراتيجي على الحماية الأميركية في مواجهة التهديد الإيراني. بل إن المفارقات تبلغ مداها لجميع الأطراف عند النظر إلى فوضى التحالفات والمواقف العدائية، مَنْ مع مَنْ وضدّ مَن في الشرق الأوسط.

قد تفاجئنا إيران باستهداف مواقع لتنفيذ انتقامها من إسرائيل. لا شك أنه من المبكر الجزم بذلك. لكن بعوامل قوتها الأكبر من قوة الدول العربية ولكن الأقل من قوتيْ إسرائيل والولايات المتحدة، تبدو طهران محشورة في المواءمة بين عنجهيتها وقدراتها الحقيقية. حتى هجوم الابتسامات الدبلوماسية التي جعلها تحل مشاكلها العالقة مع السعودية ودول الخليج انقلب عليها، إذ صارت مجبرة على شطب الأهداف في الخليج من قائمة الانتقام. قائمة طويلة لكنها محدودة في الوقت نفسه.

مقالات الكاتب