فاروق يوسف
ضياع فلسطين في المتاهة العربية
منذ أكثر من 75 عاما والعرب ينشدون "أخي جاوز الظالمون المدى/ فحق الجهاد وحق الفدى". وكانت فلسطين هي الهدف الذي تتقاطع فيه خطوط الطول والعرض المرسومة على خرائط خيالهم وعقولهم وأبصارهم وأفئدتهم. ولكن ماذا بعد كل ذلك الإنشاد الطويل والجارح؟ إن قلنا "لا شيء" فنحن نخون الحقيقة. وإن قلنا شيئا فالواقع يخذلنا. حتى يظن المرء أن الفشل قدر عربي لم يخلقه الكسل، بل كان صنيعا متقنا. لقد أتقن العرب عبر سنوات كفاحهم من أجل فلسطين صناعة الفشل فلم يخسروا قضيتهم في الأراضي المقدسة، بل ذهبوا بها إلى المتاهة التي صاروا يتفننون في اختراع دروبها. ولا مخرج من النفق. أما ذلك الضوء الذي كان يراه ياسر عرفات دامع العينين فلم يكن سوى صنيع خيال بددته خرافات أجيال عربية فقدت القدرة على استعمال حواسها إلا عن طريق الخطأ. فلم يعد لفلسطين محل على الخريطة العربية التي تركت خيال سايكس بيكو الشرير وراءها.
كانت فلسطين دائما هي الخلفية لكل حروب العرب، الداخلية والخارجية على حد سواء. طبعا هناك زيف كثير خالطه شيء من الحقيقة، ولكن بطريقة بلهاء. ذلك لأن السياسيين كانوا يقولون شيئا من أجل فلسطين ويفعلون ما ينقضه. كرهت شعوبهم القضية لأن تلك القضية صارت مجرد حبل غسيل لنشر الصور والدعاية الرخيصة والبيانات التي أفرغت اللغة فيها من معناها. فلم يكتف النظام السياسي العربي بإبقاء فلسطين على الرف كما لو أنها ملف، بل قام بمصادرة كرامة وحرية وأمن شعوب، صارت تكره الثوابت والقيم التي تربت عليها لأن هناك مَن قام يتحوليها إلى بضائع مغشوشة وصار يتاجر بها يعد أن يخلطلها بسلطوية عمياء لم تنفع في النهاية أصحابها. كلما علا الصراخ بـ"فلسطين" كلما امتلأت الرؤوس كمدا بـ"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". وهو ما صنع ملعبا كبيرا تُداس فيه الحريات ويُلغى فيه التفكير الحر وتُمحق الكرامة الإنسانية وتحل الهمجية محل التحضر وكل حديث عن فجر قادم يمتزج بخطى زواره المرعبة.
سيُقال "خسرنا الكثير من أجل فلسطين"، وهو قول، ظاهره حق وباطنه باطل. نعم خسرنا الكثير لكن فلسطين لم تربح. فبالرغم من أن أجيالا عاشت على خفق جناحي البطولة المتخيلة غير أن سنتمترا من فلسطين لم يُحرر ولا تزال ملايين الفلسطينيين تعيش في ما يُسمى بـ"المخيمات" التي صارت عبارة عن عشوائيات تحاصر المدن العربية الكبرى. ليس في إمكاننا الآن أن نتساءل عن مصير الثروات التي أُهدرت من أجل القضية ولم يتم انفاقها في التنمية البشرية والمادية. ولكن مصير مدن عربية كبرى صارت أشبه بالمخيمات بعد أن نُزع عنها طابعها المدني وأبعدت عنها أسباب الحضارة هو ما صار يشغلنا ويفتك بطريقتنا في النظر المزدوج لذي لم يعد يفرق بين الواقع المزري وخياله البائس. فهل سقط العرب في فخ اسمه فلسطين أم أنهم حولوا فلسطين إلى ما يشبه الفخ بسبب تخلف نظامهم السياسي؟
اليوم ذهب النظام السياسي إلى حتفه، فهل انتهت حفلة الزيف التي أقيمت على شرف ضيفة غائبة اسمها "فلسطين"؟ لبس مقاتلو منظمة التحرير الفلسطينية ثيابا مدنية بعد أن شعروا باليأس أو الملل. صاروا موظفين ينتظرون رواتبهم نهاية كل شهر. غير أن صور الشهداء والأسرى والمعتقلين لم تكف عن الظهور. ذلك مشهد لا يعبأ به المقاومون من أجل القضية كثيرا. الخطأ الذي ارتبكه النظام السياسي العربي حين تاجر بالقضية بطريقة يغلب عليها الصراخ استفاد منه المقاومون الجدد بحيث صارت المقاومة وإن ارتدت الثياب المبقعة تتاجر بالقضية عن طريق الارتزاق وقبض العمولات وتنفيذ مشاريع الآخرين بالأجر المدفوع سلفا. جوقات من الإعلاميين الرداحين تمارس دورها من أجل الإيحاء بأن القضية لا تزال حية فيما الهدف الحقيقي يكمن في أن يظل الشعب أسير فشله التاريخي في أن يقبض على شيء ولا يتحول إلى وهم. لا تزال أوهام النصر مقيمة على حافات الشبابيك التي تحيط بها غربان الشؤم.
بعد أكثر من 75 سنة من الكفاح الذي دفعت الشعوب العربية ثمنه صارت فلسطين أبعد مما كانت عليه من قبل. فإذا كانت الأنظمة القومية بكل نظرياتها الثورية قد التهمت فلسطين في وجبات غدائها فإن التنظيمات المسلحة الموالية لإيران قد حولت فلسطين إلى وجبة ساخنة يتم التهامها في كل الأوقات. لذلك تحولت المعركة إلى معارك. وبدلا من أن تتوجه البندقية إلى جبهة وهمية بعينها صارت تتنقل بين جبهات مختلفة، لا تجمع بينها فلسطين إلا باعتبارها شعارا وليست أرضا، خبرا وليست شعبا. وما يخطط له نتنياهو لغزة مصيرا لن توقفه المقاومة الإسلامية التي صار تحرير فلسطين بالنسبة لها قناعا لتثبيت الهيمنة الإيرانية في المنطقة. أن تقول "فلسطين" فإنك لا تشير إلى تلك الأرض التي أقيمت عليها إسرائيل. فلسطين اليوم بالنسبة لمقاومي إيران هي مجرد غطاء للمشروع الإيراني. ضيع العرب أنفسهم وأضاعوا فلسطين في متاهتهم.