د. عبده يحيى الدباني
محطات في كتابة الذات (1)
خرج محمد بسيارتهِ الى يمينِ الخط وتركها هناك، كانَ منتشيًا، طربًا لا لشيء، و لكن هذا الشعور يأتيه في هذا الوقت من كل يوم، وقت ما قبل القات ، و يستمر حتى يشرع في تناول القات، و تبدأ حمياه تدبُّ في جهازهِ العصبي.
قطع الطريق متجهًا الى سوقِ القات في الضفةِ الأخرى في حين كانت السيارات توشك أن تطير من شدة سرعتها ، مع أن المشاة كثيرون يريدون كذلك أن يقطعوا الخط ذهابًا و أيابًا، و لكن للأسف من وجدَ العافية دقَّ بها صدره، أحيانًا تنتبه للسيارات القادمة من "كالتكس" متجهة الى "الشعب، والبريقة" فتأتيك سيارة مخالفة عكس اتجاه السير لم تنتبه لها، و قبل شهور فقط فقدنا معلمًا حين دهسهُ بابور البلدية المخالف لاتجاه السير - رحمه الله تعالى-
تحسس جيبهُ و هو يقطع الخطَين بعدَ انتظاره بعض الوقت من مرور السيارات الطائرة، تأكد من وجود الخمسة ألف ريال في جيبه؛ فالقات غالٍ هذه الأيام بفعل الوضع في الضالع و غير ذلك .
الوضع العسكري في الضالع حار جدًا بينما وضع الطقس بارد جدًا واسعار القات ملتهبة عكس برودة الجو ، ربنا يعين المرابطين هناك على حر الحرب و قسوة البرد وواجب المرابطة.
-السلام عليكم، كيفك يا فضل ؟ هات لي قات خارجني لو سمحت أنا مستعجل .
كان فضل المقوتي مشغولًا بالزبائن لم يلتفت لمحمد زبونه الاعتيادي العريق لقد ضمنه ثم إنه مشغول بآخرين يعرض عليهم حزم القات السمين المختار الممتاز و يقول : هذه بعشرين ألفًا و هذا بثلاثين ألفًا.. و هكذا، كانوا يساومون قليلًا ثم يشترون ، هكذا كل يوم .
شاهد محمد مرةً حزمة كبيرة من القات مع فضل المقوتي صاحبه كانت مدهشة و مُغريَّة فسألهُ محمد من بابِ الفضول:
-بكم هذه الحزمة؟
فقال:
-بتسعين ألف ريال
-ماذا تقول!! حبة قات بتسعين ألف ريال! هذا قده جنان !
قال: -انتظر سوف أبيعها أمامك بعد قليل ،
انشغلَ محمد بملاعبة أحد الأطفال.. يلقاه دائمًا بصحبة فضل المقوتي فهو قريبه يدربه على بيع القات و الانتباه لهذا و ذاك، يحب محمد الأطفال وكثيرًا ما يمزح معهم ؛ بعضهم يبتسم فرحًا و بعضهم يظهر عليه الانزعاج والاستغراب من هذا الغريب الذي يمزح مع من لا يعرف !
دسَّ الأربعة ألف في جيب المقوتي واتجه عائدًا الى سيارته و كان المقوتي يصيح :
-باقي ألف!... باقي ألف!
وهنا جرى مروان الطفل وراء محمد صاحبه يطالب بالباقي، لم يلتفت لذلك، كان شاردًا في طريقه مرَّ على صاحب الشعير و مر على صاحب الجهيش و مر على صاحب الحلوى، كانوا يعرفونه جيدًا و يعطونه ما يريد سواء بالدَين أو الدفع المباشر، جميع هؤلاء من تعز صاحب القات و صاحب الجهيش و صاحب الشعير،
و محمد هذا حراكيٌّ جدًا و بعضهم يسميه جنوبي متشدَّد، لكنه على سبيل العلاقات الشخصية الاجتماعية يهشُ لمن يهشُ له و مقياسه المعاملة و يبدو أن كثيرًا من الجنوبيين مثله، فهم في مجالسهم يتحدثون عن الشمال و عن الشماليين و عن الظلم الذي لاقاه الجنوبيون من نظام صنعاء و شعب الشمال و غير ذلك، و يتحدثون عن أساليب الشماليين في المكر و الخداع و لكن في الواقع تجدهم يتعاملون بحب و احترام مع الشماليين كأفراد و باعة و نازحين وعمَّال و طلبة و تجار و غير ذلك، وهذا أمر حضاري اعتاد عليه الجنوبيون بشكل عام حتى في أشد أيام الصراع و الحرب بين الشمال الجنوب، وهذا التعامل الإنساني الحضاري لم يتغيَّر، و إذا حصل شيء فذلك من قبل أجهزة الأمن من باب الحذر و التوخي من أي اختراقات أمنية.
ركب محمد سيارته و شغَّل الراديو فجاء الصوت "هنا عدن.. هواها جنوبي"
هنا عدن جنوبيةُ الهوى والهوية.
وبين حين واخر تردد الإذاعة هذه الاكليشة أو الشعار و أقصد إذاعة هنا عدن التي تتبع المجلس الانتقالي الجنوبي ، وعندما يسمع صاحبي محمد هذه الاكليشة الصوتية الإعلانية يزداد طربًا و نشوة فهذه المصكوكات تتكرر من إذاعة هنا عدن !
تعرفون لماذا يطربُ حين يسمع ذلك؟
لأنه هو أول من قال أو كتب "فلان هواهُ جنوبي" و "فلان جنوبي الهوى والهوية" وإنه لمتأكدٌ من ذلك و أنا الآن لم أقل لكم أنَّ محمدًا هذا كاتبٌ مرموق و قد كان شاعرًا في بدء حياته الأدبية حين كان شابًا، لكن مجال عمله أخذه من قرية الشعر إلى مدينة البحث الأدبي و النقد، و ذلك ليس بعيدًا عن عالم الشعر ضوءًا و إبداعًا، لكنَّ رياح الأيام لم تقف بصاحبنا عند هذه المحطة، بل ألقت به في رحاب السياسة و رمالها، لكنه لم ير ذلك سياسةً صرفًا ، فإنما هي كتابة في السياسة لا تخلو من الشعر والابداع مما يقربها من الأول، أما النضال و الكتابة في سبيل الجنوب المظلوم فذلك عمل وطني ثوري وليس سياسة احترافية تقليدية.
سمعتهُ أكثر من مرة يردد مقولة الشهيد محمد محمود الزبيري: "لقد جنى الشعرُ على تصوُّفي، و عوقبَ شعري بالسياسة"
كأنه يسقطها على نفسه مع بعض الفرق بين التجربتين.
كانت السيارة تطوي الطريق طيًا كأنها تلتهمها و صوت الفنان فيصل علوي يصدح من هنا عدن :
"في الحسيني جناين
و الرمادة زراعة
عادني عادني
بالي من الزين ساعة
ليه يا خاطري ليه الجفا ليه ما شان "
الكلمات ترقص و العود يغنِّي - رحمَ الله فيصلًا- وصاحبنا قد استخفَّ به الطرب فوق ما به من طرب في هذه السويعات من كل يوم.
الله أكبر! .. الله أكبر!
أشهدُ ألا إله إلا الله
....
صدق الحق هذا أذان الظهر، تجاوبت أصوات المؤذنين من المساجد و من إذاعة هنا عدن، الحمدلله سيلحق صلاة الظهر مع الجماعة في مسجد الحافة، وتذكر أنه قد صلى الفجر مع الجماعة في المسجد نفسه فزاد سروره -تقبل الله منه و منكم صالح الأعمال- لم أفضل أن أصحب صديقي الى منزله و البقاء عنده هذه الظهيرة، على الرغم من أنه قد دعاني للغداء، انفتح باب السيارة و سمعته ينادي للأولاد:
-تعالوا خذوا هذا الحشيش للنعجة، و خذوا القات لسمية تغسله، و الحقوني الى المسجد..
محمدٌ صاحبي يعشق القات كثيرًا لم يكن كذلك من قبل ، في السنوات الأخيرة كاد يكون من المدمنين، كان يعجب ممن لا يخزن كيف يعيش وكيف يقضي الوقت لاسيما بين الظهرِ و المغرب، وهذا هو الإدمان ذاته!
لكنه يكتب مخزنًا و يقرأ مخزنًا و يقرأ بحوث طلابه مخزنًا ويناضل مخزنًا حتى إذا كان متنقلًا أو مسافرا من مكان إلى آخر ؛ فمثلما كان الشعر يرافق العرب في أتراحهم و أفراحهم، فإن القات اليـوم يرافق الناس في هذه البلاد شمالًا و جنوبًا في أفراحهم و أتراحهم، ...بحضرون مجالس الفرح مخزنين و يحضرون مجالس العزاء مخزنين، فيسيطر جو القات على فرحهم إن كانوا في فرح، و على حزنهم أو تحازنهم إن كانوا في مجالس تأبين أو عزاء، حتى عندما يتحاربون من مترس الى مترس فإن هناك أوقاتا تتوقف فيها العمليات الحربية بين الطرفين بشكل تلقائي ومن غير اتفاقات رسمية أو هدن معلومة، تستمر هذه الهدنة القاتية من بعد الظهر إلى قريب المغرب و بعدها تسمع أصوات الانفجارات قُبيل أن تغرب ملامح القات عن وجوههم وتغرق الشمس بالدماء خلف الجبال والسواحل الثكلى.
و في هذه السويعات السليمانية المباركة و ما قبلها بقليل يتوحد الناس و يشتركون في هم واحد ثم يعيشون لحظات متشابهة متداخلة تكشف لهم طبيعة هذه الحياة و هذه الحرب نفسها، و من لم يجد قاتًا في سوق جبهته الحربية فليذهب إلى سوق الجبهة الأخرى المعادية ليشتري ما يريد من القات، فـطريق القات بيضاء ذهابًا و إيابًا ، كأن أيام الأشهر الحُرم الأربعة قد توزعت إلى ساعات محددة من الـيوم على مدار أيام السنة ،جميعها و لا عجب فأنتَ في بلد الأعاجيب ولا ضَير، فساعات السلام أفضل ألف مرة من ساعات الحرب لا سيما هذه الحرب في هذه البلاد لأنها عبث، حتى الذي لديه قضية عادلة اوقعوه في عبث الحرب.
لم يكن محمد يعشق القات على هذا النحو، كان قليلًا ما يخزن ولكن الإنسان بطبعه متغيَّر من زمنٍ الى زمن حتى لكأنه لا يعرف الـيوم ذلك الإنسان الذي كان يعرفه قبل عشرين سنة مع أنه هو ذاته، و ما أشدَّ أثر التغيير في حياتنا و في كل شيء من حولنا و قديمًا قال المتنبي:
"من صحبَ الدنيا طويلًا تقلبت
على عينهِ حتى يرى صدقها كذبَا"
وجاء في الأثر : يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك.
أنا أعرف محمدًا جيدًا و أعرف أباه من قبله فقد كان أبوه مولعيًا مشهورًا اسمه يحيى و كأنه بالقات يحيا - رحمه الله تعالى- و كانت معه و مع القات و بسبب القات قصص طريفة وحكايات، إنه يحيا مع القات و بالقاتِ يعييش .