خيرالله خيرالله
أرمينيا تجنب الأرمن مجزرة جديدة!
تجنب الأرمن مجزرة جديدة. لم يكن في ناغورني كراباخ، المطوقة من معظم الجهات، من كان مستعدا ليهبّ إلى نجدة نحو 120 الف ارمني يعيشون في هذا الإقليم الذي أعلن نفسه جمهوريّة مستقلة.
في سياق الإنتصار الأذربيجاني، ثمة انتصار كبير لتركيا سجلته، في ضوء العلاقة الوثيقة التي تربطها بأذربيجان. جاء هذا الإنتصار مع أعلان الزعيم الانفصالي للإقليم الأرمني أن "الجمهورية الانفصالية" غير المعترف بها دولياً ستزول في مطلع العام المقبل. يظل رحيل الوجود الأرمني عن ناغورني كراباخ، بكلّ ما في ذلك من آلام لشعب ارتبط بأرضه تاريخيا، أفضل من وقوع مجزرة في وقت ليس هناك من هو مستعد لإغضاب أذربيجان أو تركيا.
ليس من يريد إغضاب هذين البلدين، لا تريد روسيا ذلك ولا إيران. هذا ما يفسر الفشل الروسي في توفير الضمانات لأهل الإقليم. هناك الفا جندي روسي في ناغورني كراباخ مهمتهم المحافظة على الهدنة فيها ومنع الأذربيجانيين من السيطرة على الإقليم. لم يفعل هؤلاء شيئا عندما شنت أذربيجان هجومها المفاجئ أخيرا. الأكيد أن رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان، الذي على علاقة سيئة بالرئيس فلاديمير بوتين، كان يعرف ما الذي يفعله. فضل الهزيمة على المجزرة. فضّل عمليا المحافظة على أرمينيا لا اكثر ودفع ثمن ذلك في ناغورني كرباخ.
من الواضح أنّ أذربيجان، بالتفاهم مع تركيا، إتخذت قرارا بانهاء وجود إقليم ناغورني كراباخ الذي أقامه أهل المنطقة من الأرمن. سقط الإقليم عسكريا. قبل ذلك سقط سياسيا في غياب من يلوحّ حتّى بالدفاع عنه.
كان انفصاليو الاقليم أعلنوا في 20 أيلول - سبتمبر الماضي موافقتهم على وقف النار، إثر تعرضهم لسلسلة نكسات في أرض المعركة على يد الجيش الأذري، بعد يوم واحد من تفجر القتال.
معروف أن الجمهوريتين السوفياتيتين السابقتين، أذربيجان وأرمينيا، خاضتا حربين للسيطرة على إقليم ناغورني كراباخ المتنازع عليه والذي تسكنه غالبية من الأرمن. كانت الحرب الأولى في تسعينات القرن الماضي والثانية في العام 2020.
رعت موسكو اتفاقاً لوقف النار أنهى المعارك في 2020، ونشرت قوة لحفظ السلام هناك، لكن تلك القوات لم تمنع الهجوم الخاطف الأخير للقوات الأذربيجانية.
ما الدروس التي يمكن استخلاصها من الذي حدث في ناغورني كراباخ؟
قد يكون الدرس الأوّل أن الدور الروسي في تلك المنطقة الأسيوية التي تعتبرها موسكو مجالا حيويا لها لم يعد موجودا. بات واضحا أنّ روسيا غارقة إلى ما فوق رأسها في الوحول الأوكرانيّة ولم تعد لها القدرة على ممارسة أي نفوذ في القوقاز. الأهمّ من ذلك كلّه أن أرمينيا نفسها تعي أهمّية خطوط الأنابيب التي ستنقل الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا عن طريق تركيا، وهي تريد أن تكون أحد الممرات التي تسلكها هذه الأنابيب. من هنا، ليس مستبعدا تحسّن العلاقات الأذربيجانية – الأرمنية مستقبلا، كذلك العلاقات التركيّة – الأرمنية.
يحصل ذلك كلّه في ظلّ تقارب أرمني – أميركي عبّر عنه إجراء مناورات عسكرية بين الجانبين قبل فترة قصيرة. لم تعد أرمينيا تلك الجمهوريّة السوفياتية التي تدار من موسكو كما كانت عليه الحال في الماضي القريب، حتّى بعد سقوط الإتحاد السوفياتي في أواخر العام 1991. لم يخف وزير الخارجيّة الروسي سيرغي لافروف تضايق بلده من هذه المناورات. ذهب إلى حد تحذير أرمينيا من الإعتماد على أميركا مشيرا إلى أنّ اميركا طرف لا يمكن الإعتماد عليه. لم يقل لنا لافروف ما مصير الدول التي اتكلت على روسيا التي يبدو أنّ لا همّ لها، على سبيل المثال، سوى المحافظة على نظام أقلوي في حرب مع شعبه، مثل النظام السوري!
الأكيد أن الخيبة الأرمنية تتجاوز روسيا. أظهرت التجارب أن "الجمهوريّة الإسلاميّة" في ايران، التي كانت تدعم أرمينيا، لا تستطيع الذهاب بعيدا في حمايتها من أذربيجان. ليس سرّا أن الآذريين موجودون في داخل ايران وهم شعب من الشعوب الإيرانية، وهم في اكثريتهم الساحقة من الشيعة. يشغل الآذريون مواقع مهمّة في الدولة الإيرانيّة.ّ من المفيد الإشارة إلى أنّ علي خامنئي "المرشد" في "الجمهورية الإسلاميّة" من أصول آذرية. خلاصة الأمر أنّ لا مجال لأي تدخل إيراني في مصلحة أرمينيا والشعب الأرمني في ناغورني كرباخ وغيرها. عندما يتعلّق الأمر بأذربيجان يتفوق الإنتماء إلى القومية التركيّة على كلّ ما عداه. تتفوّق القوميّة على المذهب في أذربيجان التي تربطها علاقة قويّة بتركيا وأميركا وإسرائيل. لا تتجرأ ايران على الإحتكاك بأذربيجان، خصوصا أنها في حاجة إلى أراضيها كممر لدول أخرى تربطها بها علاقات في المنطقة.
ضحت أرمينيا بناغورني كرباخ بعدما قرأ رئيس الوزراء فيها التطورات السياسية في القوقاز جيدا، خصوصا في ظلّ اربع معطيات. أول هذه المعطيات أهمْية الغاز وانابيب الغاز ومدى الاهتمام الأميركي بذلك. يتمثل المعطى الثاني بالعجز الروسي عن لعب دور في القوقاز. لا يعود ذلك إلى انكشاف الضعف الروسي في أوكرانيا فقط. ثمة عامل آخر لا بدّ من أخذه في الإعتبار وهو أنّ كلّ الجمهوريات القائمة في تلك المنطقة تمتلك مخاوف من التوجهات الروسيّة خصوصا بعد الحرب التي شنّها فلاديمير بوتين على أوكرانيا مستندا إلى أسباب واهية. أمّا المعطى الثالث فيتمثل في الموقف الإيراني من أذربيجان. لا استعداد لدى "الجمهوريّة الإسلاميّة" لأي مغامرة من أي نوع مع أذربيجان لأسباب اكثر من معروفة على الرغم من العلاقة الوثيقة بين باكو من جهة وإسرائيل وأميركا من جهة أخرى.
يبقى المعطى الرابع المتمثل في التقارب الأميركي – التركي. إنّه تقارب لا تستطيع أرمينيا تجاهله بأي شكل على الرغم من كلّ العداء لتركيا، وهو عداء يقيم في قلب كلّ ارمني!