أحمد الجعشاني
المعلم
كان جلوسي في المسجد، قربني اليه اكثر، وحبب الي القرائة، هو من علمني القرائة وأحسن تعليمي ، حدث ذلك عندما كنت صغيرا، وقبل دخولي المدرسة، أرسلني والدي، إلى الكتاب او (المعلامة )، وتنقلت، من معلامة الى اخرى، وهم كثر، وكانت ظاهرة ، في ذلك الوقت، ومنتشرة في المساجد، وبعض البيوت في عدن، وكان أولياء الأمور، يرسلون أبنائهم، قبل المدرسه، إلى المعلامة .. وكما هو معروف، ان المعلامة مكان لتعليم النشئ، مبادئ القرائة والكتابة، وكان أغلب المعلمين، هم من حفظة القرأن الكريم، و من أئمة المساجد، هم من يمارسون تلك المهنة في المساجد، وكنت قد تنقلت كثيرا، من معلامة الى آخرى، ولم أفلح في تعلم القرائة، حتى استقر بي الحال، في مسجدنا القريب من بيتنا، بعد أن جاء، معلم شاب في منتصف العشرين من العمر، جاء من شمال اليمن، طالب علم، ومدرس للغة العربيه في إحدى المدارس، وكان امام المسجد و مقيم فيه.. وكنت من تلامذته، قبل دخولي المدرسه، فعلمني فأحسن تعليمي،فكان له الفضل، ان علمني القرائة و الكتابة.. وحفظ القرأن.. بعد ان عجز ، من كان قبله من المعلمين، حتى صرت نهما في القرائة، وشغوف في استبيان الحروف، المتراصفة، وهي تتشكل كلمات وعبارات، في سطور تتماهى بها صفحات الكتب ...
فكنت اتصفح كثيرا مجلة الاطفال وروايات في كتب صغيره كان يحضرها خالي اسبوعيا، من مكتبة شهيرة في عدن ، الا انها لم تشبع نهمي وشغفي للقرائة ،حتى سمح لي مرة، الأستاذ مرة ، بالدخول الى الغرفة المقابلة لجلوسنا... وهي صومعته، التي يخرج منها عادتا، عند حضورنا اليه، فشاهدت مخبئه الذي ينهال منه العلم.. وكمية من الكتب الكثيرة.. ومجلدات.. مرصوفة، على رفوف من الخشب، تمتلى بها جدران الغرفة حتى بلغت سقفها، والبعض منها، كان قد وضع على الارض، فادهشني لذلك المنظر، وكمية الكتب التى كان يملكها،فعرفت السر الذي جعل منه ذلك ..الأستاذ البارع في اللغه، وألعارف في الأدب، والحافظ للكتب التاريخ، وداوين الشعر ، واصول الدين والفقه ، معلم فاضل، وأمام خطيب في المسجد، واعظ، متواضع، لايزجر في الحديث، فيه من الصفاء والحلم،لم يكن خجولا ولكن احيانا كان يغلب عليه الحياء ،بعدها بمدة سمح لي ايضا، الجلوس معه في مكتبته، ورغم حداثتي و صغر سني، إلا انه كان يعاملني معاملة الكبار، وسمح لي ايضا، ان استعير بعض من كتبه، فكنت كلما قراة كتاب، سألني عن محتوى الكتاب،فضول المعلم، بأسلوب المربي، الذي يجتهد بإيصال المعلومة، إلى تلميذه..وعادتا بعد الانتهاء من صلاة العصر، كنت أنتظر بلهفة، دخوله إلى صومعته فاتبعة باستحياء، واظل واقف بالباب، حتى يأذن لى الدخول" ويسألني؟ وأنا أنظر، إلى عناوين الكتب المصفوفة، على الرف فاختار كتاب، يشبع نهمي وفضولي للقرائة، فاخرج وانا سعيدا في تلك اللحظة، وأنا ممسك بالكتاب بين يدي، فتلك كانت لحظات السعادة عندي في ذلك الوقت، ولكن احيانا لحظات السعادة لا تدوم ..تكون مثل لحظات قدوم العيد ونحن صغار ننتظره بفرح ولهفة وشوق عند كل موسم أو في كل سنه ننتظر قدومه ، وفي الحياة هناك ايضا متغيرات وأشياء، قد لانفهمها ونحن صغار.. ولكن تظل الحياة مستمرة، طالما هناك الامل موجود، طالما الغيث ينزل عام وأن تأخر عام ولكنه حتما يأتى في العام الاخر، فالانسان مهما تعلم خط الاحرف، وكتابة الكلمات، ونطق لسانه أحرف الهجاء، فان ذلك الفضل يعود للمعلم، الذي سلك لنا السبل، الى حياة اخرى، واضأء لنا الطريق، نور نمشي عليه، فكان الأستاذ ، مثل ذلك الضوء الشارد في جنح الظلام .. حين نراه من بعيد.. ولا نصل إليه.. ولكننا نركض نحو ذلك الضوء الشارد حتى نلحق به .. قبل جلاء الاستعمار من عدن تتوالى فيها الاحداث، وتنذر بمستقبل لا أحد يعرف عاقبته . الا الذين يعرفون ويقرأون الاحداث يستنبطون الامور وخبايا السياسه وأهلها ، فالكل في عدن كان يترقب جيدا لما يحدث في عدن، من صراع بين ثوار اليمين وثور اليسار على السلطة ، وفي يوم كانت عدن كالرمضاء وهي تستجير من النار بالنار، فأحرقت نفسها وهي ترفع رأية الحريه والاستقلال . حتى صدق فيها المثل، فحزم المعلم حقائبه وغادرنا.. او هرب خائفا ..من مصير مجهول .. لا بل مصير كان يعرف نهايته .... غادر الأستاذ عدن .. تارك مسجده، ومنبره، وصومعته الصغيره ، ومدرسته وتلميذه الصغير الذي أحيا فيه الأمل..وفتح له نافذة صغيرة.. ينظر منها الى حياة غير التى كان يعيشها.. وضوء شارد.. كان يتسلل منه النور ...