د. عبده يحيى الدباني
محاولة في الإجابة على سؤال: ما هي وظيفة الأدب؟!
يتساءل الكثيرون عن وظيفة الأدب. فهل للأدب وظيفة؟ وإن كان له وظيفة فيا ترى ما هي؟ وكيف نشخصها أو نحددها؟ لقد ظهر الأدب كظاهرة إنسانية اجتماعية لغوية مع ميلاد الحياة الاجتماعية لا سيما الشعر الذي ارتبط ظهوره غالباً بالطقوس الدينية. لقد ظهر الأدب إذن وأدى دوره ووظيفته قبل أن يفكر الإنسان في هذه الوظيفة أو يدركها أو يرصدها، فهذه مهمة لاحقة حاول النقد أن ينهض بها بل أن هناك علماً أدبياً سمي حديثاً بـ (نظرية الأدب) كرس نفسه للبحث عن ماهية الأدب ومصدره ووظيفته. وفي منأى عن التنظير والتقعيد وتباين النظريات المختلفة منذ النقد اليوناني حتى اليوم فإن عصارة الموضوع فيما يخص وظيفة الأدب تكمن كما نراها في: تغذية العقول والنفوس والأرواح وتنمية المشاعر وتهذيبها والسمو بها في فضاء الإنسانية وبعيداً عن النزعات الحيوانية، وبما أن الأدب فن من الفنون فإن في الإنسان رغبة فطرية في التعاطي مع الفن والتشبع به ولا بد من إشباع هذه الحاجة الإنسانية الفطرية لدى الإنسان حتى تستقيم الحياة وتنأى عن طريق الشذوذ والانحراف والتوحش .
وقديماً أشار أرسطو إلى وظيفة (التطهير) التي ينطوي عليها الأدب ولعلها التخلص من المشاعر الزائدة أو المكبوتة والاتجاه بها نحو الصحة والاعتدال.
كما أن الأدب شعراً ونثراً بوصفه فناً لغوياً- يعزز ملكات التعبير لدى القارئ أو السامع على ما لهذه الوظيفة من أهمية كبيرة سواء لدى الفرد أم لدى المجتمع والأمة فازدهار اللغة بوصفها اداة التعبير يعني ازدهار الفكر وثراء العقل ونماء العواطف، ولا يجدد اللغة ويحفظها وينشرها ويشذبها مثل الأدب، وكذلك يضخ فيها روحاً جديدة ويساعد على تعلمها واستنباط قواعدها حتى لقد قال العالم العربي الخليل بن أحمد الفراهيدي: «الشعراء أمراء الكلام» بمعنى أنهم يأتون بأحسنه ويأتون بالأساليب والتراكيب الجديدة فتكتسبها اللغة وتضاف إلى رصيدها.
أما العرب وما أدارك ما العرب؟ - عرب الأمس طبعاً لا عرب اليوم فقد دخلوا التاريخ الإنساني من باب (الكلمة) بل الكلمة الأدبية الشاعرة الآسرة، وعُرفوا بشغفهم الشديد بالبلاغة والبيان وبفن الكلام فقد كانت تأسرهم الكلمة الجميلة وكانوا ينقادون لها مع أنهم من أصعب الأمم انقياداً للسلطان كما ذكر ابن خلدون ولأن الله أعلمُ حيثُ يجعل رسالته فقد تحداهم من جانب قوتهم حين أنزل إليهم القرآن الكريم، وجعل معجزة النبي العربي الأمي معجزة بيانية إلى يوم الدين فلم يستطع العرب أن يأتوا بمثله - ولن يستطيعوا - في بيانه وبلاغته وأسلوبه حتى وإن كانت المعاني أو المضامين مفتراة قال تعالى: {أم يقولون افْتَرَاهُ قُل فاتوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مثلِهِ مُفْتَرَياتٍ) فالتحدي يكمن في الأسلوب البياني بصرف النظر عن المعاني أو الحقائق العلمية والتاريخية والغيبية فهي ليست موضوع تحدٍّ لأن العرب لا يجيدونها وليسوا بذوي شان فيها .
لقد دخلت العرب في دين الله أفواجاً نظراً لأمور كثيرة من أهمها المعجزة البيانية التي خلبتهم وأفحمتهم في آن واحد، من غير أن يستطيعوا الفكاك من أسرها وأثرها وتحديها، ومن ثم مضوا ينشرون الدين في الأصقاع، ويبنون دولة قوية ومجتمعاً رصيناً جديداً وينكبّون على القرآن الكريم يخدمونه من خلال تأسيس عدد من العلوم اللغوية والدينية والأدبية من مثل: النحو والصرف والبلاغة والتفسير والتجويد وجمع اللغة ورواية الشعر وغيرها. فبوجود القرآن الكريم بين يدى العرب لم يخمل دور الأدب بل استمر وازدهر، لا سيما بعد أن تزود ببلاغة القرآن ونهل من معانيه، وأفاد من العلوم التي ذكرناها فائدة قصوى إلى يومنا هذا. بيد أن ملكة الفصاحة والبيان المتأصلة عند العرب - التي بلغت ذروتها عند نزول القرآن- بدأت بالانحدار منذ ذلك الزمن وإلى زمننا الحاضر وهكذا حتى قيام الساعة، لأن التحدي جاء أولاً لمن هم في الذروة العليا من البلاغة، أما الأجيال التي بعدهم فهم أعجز من ذلك الرعيل الأول أمام تحدي القرآن الكريم لضعف السليقة والفطرة اللغويتين، وهذا أمر طبيعي ومنطقي، كما هو حقيقة تاريخية ولغوية وأدبية لأن الأجيال اللاحقة تعلمت اللغة الفصحى تعلماً. هكذا إذن كانت وظيفة الكلمة الأدبية عند العرب، لقد ارتبطت بالدعوة الإسلامية ارتباطاً مباشراً وبمعجزتها وتحديها وانتشارها في أصقاع الأرض، كما ارتبطت بغلبة الأمة العربية الإسلامية على سائر الأمم سياسياً ودينياً وثقافياً ولغوياً وأدبياً وحضارياً. وكثيراً ما أشار القرآن الكريم إلى أثر الكلمة البليغة في النفوس وسلطانها عليها، وهو بهذه الإشارات يحدد وظيفة للأدب، قال تعالى {وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً ) وطلب موسى عليه السلام من ربه أن يرسل معه أخاه هارون لأنه أفصح منه لساناً، والشواهد كثرة، وكذلك نوهت الأحاديث بأهمية الكلمة وخطورتها وأثرها، ولقد أراد الإسلام عموماً أن يطوع الأدب لخدمة القيم الإسلامية الحميدة ويسخّر الكلمة في سبيل الدعوة الإسلامية وشريعتها وعقيدتها ، وطالما تغنى الشعراء بدور الكلمة الأدبية أو الشاعرة، ونوهوا بخطرها وسلطانها، وقديماً قيل : وجرح اللسان كجرح اليدِ
وإذا كان الشاعر العباسي أبو تمام قد قال في بائيته الشهيرة في فتح عمورية:
السيف أصدق إنباءً من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعبِ فإنه يقصد بالكتب هنا كتب المنجمين وليس كتب الأدب والشعر وغيرها، فهو نفسه القائل:
إن يختلف نسب يؤلف بيننا أدب أقمناه مقام الوالدِ
وهو القائل كذلك:
ولولا خلال سنّها الشعر ما درى
بغاة الندى من أين تؤتى المكارمُ
وهذا ينسجم مع القول المأثور: «الشعر ديوان العرب».
لقد عرف الأدب العربي قديماً فنون النثر كما عرف فنون الشعر بيد أنه حديثاً عرف فنوناً جديدة في الشعر والنثر معاً بحكم التطور والتغير وبحكم الاحتكاك بالآداب الأجنبية. لقد وفدت إليه القصة والرواية والمسرحية والمقالة بكل الوانها من الأدب الغربي وإن يكن لها بذورها في الأدب العربي القديم أو ما يشبهها، ولا بأس ولا ضير من هذا التأثير، فالآداب القومية يمد بعضها بعضاً بالجديد والتجديد ويؤثر بعضها في بعض من غير ذوبان أو مسخ أو تقليد أعمى أو تبعية أدبية خانعة منسلخة عن الجذور.
ويبدو أن وظيفة القصة والرواية والمسرحية تختلف إلى حد ما عن وظيفة الشعر مع وجود بعض الوجوه المشتركة وقديماً أخرج افلاطون الشعراء من مدينته الفاضلة بحجة أن الشعر يحاكي العواطف والانفعالات ولا يلتزم بما يمليه العقل، ولكنه عاد وأدخل بعضاً منهم، لأنهم يلتزمون بمبادئ جمهوريته الفاضلة. كما أخرج بعض النقاد في الغرب الشعر من دائرة الالتزام لأنهم عدوه ترجمانا للعواطف، وفناً خالصاً فيه المتعة أكثر من الفائدة لكن المسألة في نظرنا - نسبية، لا سيما إذا انطلقنا من وظيفة الشعر خاصة والأدب عامة في التراث العربي والثقافة العربية .
إن القصة والرواية والمسرحية كثيراً ما تصور لنا الحياة بتفاصيلها تصويراً درامياً متخيلاً فنفيد كثيراً من تجارب الآخرين ونستمتع بها،
ونتخلص من كثير من عقد الخوف أو الرهبة أو التردد أو غيرها من المشاعر المكبوتة ونستطيع أن نعرف أنفسنا إلى حد ما وأن نكتشفها من خلال هذه التجارب التي تحاكي النموذج من السلوك والمواقف سلباً وإيجاباً فصورة (البخيل) في الأدب - مثلاً تاتي واضحة نموذجية، مع أنها في الحياة الواقعية قد تكون غير واضحة وقد تكون جزئية، بينما صورة البخيل في الأدب تكون قد جمعت كل سلوك البخلاء في صورة واحدة وأبرزتها مجسدة مؤثرة .
كتب العقاد يرحمه الله، عن قراءته للأدب ولغير الأدب يقول: «كلا .. لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لازداد عمراً في تقدير الحساب.. وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة، والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب».. ويواصل قائلاً: « فكرتك أنت فكرة واحدة شعورك أنت شعور واحد، خيالك أنت خیال فرد إذا قصرته عليك.. ولكنك إذا لاقيت بخيالك خيال غيرك.. فليس قصارى الأمر أن الفكرة تصبح فكرتين، أو أن الشعور يصبح شعورين، أو أن الخيال يصبح خيالين كلا، وإنما تصبح الفكرة بهذا التلاقي مئات من الفكر في القوة والعمق والامتداد». لقد أطلت الاقتباس من مقالة العقاد، فلقد وضع يده على وظيفة رئيسة من وظائف القراءة بوجه عام وقراءة الأدب بوجه خاص.
ولعل من وظائف الأدب إجمالاً لا تفصيلاً، توليد المتعة واللذة في نفوس المتلقين من خلال عناصره الفنية المدهشة، وينطوي الأدب على كثير من المعرفة بمختلفة ألوانها كالعلم والثقافة والدين والتاريخ. ويرى النقاد الرومانسيون أن وظيفة الأدب هي التعبير عما يجيش من عواطف وانفعالات في نفس المبدع ، لأنهم مجدوا العاطفة والخيال في أدبهم ونقدهم.
د عبده يحيى الدباني