د. عبده يحيى الدباني
الشعر حين يجلد الشعب ويفجر طاقاته
سنتوقف في هذا المقال العجول أمام قصيدة للبردوني تكاد تكون ملحمية في مضمونها وتصويرها، كشفت الجانب الإيجابي لدى الشعب في مرحلة معينة من تاريخه كما رصدها الشاعر وشعر بها.
وهاهم اليمنيون اليوم، يمرون جميعاً في محنة أشرقت خلالها إيجابيات هنا، وادلهمت سلبيات هناك، بفعل عوامل وتراكمات كثيرة.
لقد خذلت النخب السياسية شعبها حين لهثت وراء مصالحها الضيقة، وتخلت عن مصلحة الوطن والشعب، فنكب بها الشعب نكبة، وانقسم تبعاً لانقساماتها، أو انكفأ على نفسه، واستسلم لمن فرض عليه أمراً واقعاً، وإن لم يكن صاحب حق أو صاحب مشروع سياسي عصري يستحق الولاء كما هو جار اليوم في صنعاء وأكثر مناطق الشمال.
لقد صور البردوني في شعره تصويراً عميقا إيجابية اليمنيين وسلبيتهم، وقوتهم وضعفهم، وطبيعة حكامهم، ولم يقتصر ذلك على ماضيهم، ولا على ذلك الحاضر الذي عاصره الشاعر معهم، وفيهم، ولكنه رصد ما سوف يكون، ليس من باب الكهانة والشعوذة، ولكن من باب الحس الشعري العابر للمراحل التاريخية.
والشاعر البردوني - كغيره من الشعراء - يبدو أحياناً متبرماً من الشعب يائساً منه موبخاً إياه على ما فيه من صفات سلبية، فاقداً الأمل في المستقبل كأن يقول:
«لماذا الذي كان مازال يأتي
لأن الذي سوف يأتي ذهب
لأن أبا لهب لم يمت
وكل الذي مات ضوء اللهب».
وأحياناً أخرى يبدو واثقاً بالجماهير وبالتغيير، خالعاً الصفات الإيجابية العظيمة على الشعب، متفائلاً بالمستقبل، راضياً عما حدث متغنياً به، ولا نرى في هذين الحالين تناقضاً بل نرى تكاملاً، فهذا يعود إلى ملابسات التجربة الشعرية للشاعر، وإلى حالته النفسية، ولعله قد صور الحقيقة العميقة في كلا الحالين السلبي والإيجابي؛ ثم من قال إن للحقيقة وجهاً واحداً فقط، إنها متعددة الوجوه، أو قل إن الحقيقة هي عصارة تلك الوجوه جميعاً، وتبقى الحقيقة متعالية متأبية على أي حال، وهذا التعدد والاختلاف في شعر البردوني بحاجة إلى دراسة واعية مستقلة.
لطالما جلد البردوني شعبه على تخاذله، ومن قبله فعل ذلك الزبيري، فقد رثا الشعب في الشمال في شعره بعد فشل ثورة 1948م، في صنعاء تلك الثورة التي قامت من أجل الشعب، فأسقطها الشعب نفسه، إذ قال في ما قال:
«يا شعبنا نصف قرن في عبادتهم
لم يقبلوا منك قربانا تؤديه
قضيت عمرك ملدوغا وها أنذا
أرى بحضنك ثعبانا تربيه
نبني لك الشرف العالي فتهدمه
ونهدم الصنم الطاغي فتبنيه».
وفي هذه القصيدة، التي نحن بصدد قراءتها قراءة سريعة، يبدو أن البردوني كان إيجابياً في نظرته إلى واقع شعبه، وبلاده محتفياً بهما، ومحتفلاً ومفعماً فرحاً بما تحقق ويتحقق برغم العراقيل والتحديات، فلنرقص طرباً وتفاؤلاً مع البردوني، برغم شدة المحنة المعاصرة، إذ يقول في قصيدته (أحزان وإصرار ):
«شوطنا فوق احتمال الإحتمال فوق صبر الصبر لكن لا انخذال
«نغتلي نبكي على من سقطوا
إنما نمضي لإتمام المجال
دمنا يهمي على أوتارنا
ونغني للأماني بانفعال».
ليس هذا شعوراً رومانسياً فردياً، ولكنه أقرب إلى الواقع؛ لأنه قام على استقرائه، فنياً فالشاعر يدرك عظمة التحدي، ولكنه مؤمن بقوة المواجهة وفولاذية الإرادة، حتى الوزن الشعري الذي استخدمه الشاعر يبدو قوياً فولاذياً، منحدراً كالسيل العاتي أو أن الشاعر نفسه جعله يبدو كذلك من خلال ألفاظه وموسيقاه وعاطفته ومضامينه.
«مرة أحزاننا لكنها
يا عذاب الصبر أحزان الرجال
نبلع الأحجار.. ندمي إنما... نعزف الأشواق.. نشدو للجمال»
هكذا ينمو النص تراكمياً يدور حول فكرة التحدي والمواجهة والثبات في أعمق صورها، ثم يشرع الشاعر في سرد ما جرى تاريخياً واقعياً:
«مذ بدأنا الشوط جوهرنا الحصى بالدم الغالي وفردسنا الرمال
وإلى أين...؟ عرفنا المبتدأ والمسافات -كما ندري- طوال
وكنيسان انطلقنا في الذرى.. نسفح الطيب يمينا وشمال
نبتني لليمن المنشود من
سهدنا جسراً وندعوه تعال».
إلى أن يقول:
«نحن هذي الأرض... فيها نلتضي
وهي فينا عنفوان واقتتال
من روابي لحمنا هذي الربى
من ربا أعظمنا هذي الجبال».
لن نعرج على الصور الشعرية المدهشة التي حملت المضامين وجسدتها، فلا مجال لهذه المسألة إلا ما جاء عرضاً أو استدعاه الموقف، ولكن انظر إلى هذه الطاقة الجبارة من التفاؤل والأمل والتحدي والإصرار والزهو، بما حدث ويحدث، مع أن هذه الطاقة نفسها قد تتقلص إلى درجة الصفر وما دونها في قصائد أخرى، ليحل محلها اليأس والإحباط والتبرم والشكوى وعدم الجدوى، هذه هي الحياة وهذا هو الشعر... حياة أخرى من خلال الحياة، كما هو لغة من خلال اللغة.
وبعد... فلم يبق في القصيدة من جديد غير رصف الأفكار المتشابهة والتنويع في الفكرة الواحدة، وهي الصراع التاريخي بين الحق والباطل... بين الخير والشر، وبين الإرادة ومحاولة قهرها:
«نعرف الموت الذي يعرفنا... مسنا قتلاً ودسناه قتال
وتقحمنا الدواهي صورا..
أكلت منا.. أكلناها نضال
موت بعض الشعب يحيي كله.. إن بعض النقص روح الاكتمال.»
طاقات هائلة لدى الإنسان وهو فرد فما بالك بشعب..
لقد حاول الشعر أن يفجر هذه الطاقات الهائلة، فنجح حيناً، واخفق أحياناً.
ألا ترى يا أبا تمام بارقنا: (إن السماء ترجى حين تحتجب).