د.ياسين سعيد نعمان
الانسان حيوان منتظر
لكي تعرف معنى الانتظار عليك أن تتخيل نفسك في أربع حالات انتظار فقط :
١-في قاعة الطوارئ في مستشفى عام ولديك طفل يتألم بشدة ويصرخ ، ويواصل الصراخ .. والممرضة تصر على أن تنتظر دورك وتطالبك في نفس الوقت با تضع حداً لصراخ طفلك ..يتقدمك طابور طويل .. لا أحد من المرضى المنتظرين مستعد أن يترك مكانه لغيره .
٢-أمضيتَ سنوات تبحث عن وظيفة عبر المراسلات والاتصالات ، وفي كل مرة يهمل طلبك ، وكانت المرة الأولى ، بعد كل هذه السنين ، التي تتلقى فيها اتصالاً من شركة مغمورة تطلب منك القدوم الى مقرها لإجراء مقابلة تقييم مهني .. مجرد الرد فجر في أعماقك سروراً أعاد للحياة المرة مذاقاً طيباً .. مرت فترة الانتظار حتى يوم المقابلة ثقيلة وبطيئة ، تداخلت فيها مشاعر الخوف والفرح والحزن . جاء يوم المقابلة ، انتظرتَ على باب المدير ساعة ، ساعتين ، المدير عنده اجتماع .. فجأة خرج المدير من المكتب مسرعاً واعتذر من الجميع لأن عليه ان يذهب الى الميناء لينتظر خبراً عن السفينة التي تقل بضاعته وتعرضت لعارض بحري طارئ.
٣-تقف في طابور استلام المعاش الشهري لليوم الرابع على التوالي في مكتب البريد ، وعندما تصل أخيراً وبعد جهد كبير إلى نافذة الاستلام يفاجئك الموظف بأن الكاش في خزنته قد نفذ ، ويعرض عليك خيارين بعد أن تشرح له معاناتك ويبدو عليه التأثر ، الخيار الأول هو أن يأتيك بالمعاش الى البيت ويأخذ منك حق التوصيلة ، أو يعطيك شيكاً بالمبلغ مسحوباً على البنك . لأن المبلغ الذي سيقتطعه كبير ، قررتَ أن تأخذ الشيك .اليوم التالي ذهبت إلى البنك . أخذت الرقم بانتظار دورك ، مرت الساعات ، لكن الموظف ، كما أخبروك ، ذهب ليقابل مدير الموارد البشرية بانتظار الترقية . عدت اليوم التالي في الصباح الباكر قبل الموظفين ، كنت في غاية السعادة حينما رأيت المحاسب يقف وراء شباك نافذة التسليم ، كنت رقم واحد في الترتيب ، وقفت امام النافذة ، ألقيت تحية الصباح على المحاسب ، لم يرد على التحية وسألك عما تريد ، ناولته الشيك ؟ . تفحص المحاسب الشيك .. نظر اليك بلا مبالاة وقال لك ، هذا الحساب مجمد . سألته ، ايش يعني ؟ أجابك يعني ما فيش فلوس ، عليك الانتظار حتى يرفع التجميد عن الحساب الشهر القادم .
٤-سطت بالقوة على البلاد جماعة من خارج تاريخه وأصرت على أن تصبح هي كل تاريخه . من أجل ذلك جندت المقدس في صيغ رثة وملتبسة ورسمته كمرجعية لعبثها . يا لهول المأساة حينما يتعين عليك الانتظار وأنت تشاهد تاريخك ينهب ، وثقافتك تستأصل ، وهويتك تبدد ، وحاضرك المشوه يصوغ مستقبلك المجهول . الانتظار هنا لا يشبه أي انتظار آخر .. إنه الانتظار الذي لا ينتهي الا باللحظة التي "تحمل في طياتها دهراً" ، اللحظة تتشكل بقوانينها الخاصة ، وقد حانت .
وقس على ذلك الكثير والكثير ،ليصح معها القول إن الانسان حيوان منتظر ، ولكنه قد لا يكون ، حينما يتعلق الأمر بتاريخه