فاروق يوسف
بريطانيا ما بعد جونسون
فجأة نكتشف أن الزعيم لم يكن محبوبا ويجب التخلص منه بسرعة.
مَن انتخبه إذاً؟ سؤال متأخر لا قيمة له. الديمقراطية لا تلقي المسؤولية على الشعب.
كان بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني الذي أطيح به منذ أيام رجلا تطارده الفضائح قبل أن يتسلم أي منصب رسمي. لقد كذب غير مرة في مهنته الأصلية وهي الصحافة.
الذين صُدموا بقابليته على الكذب واستعداده له من الفريق السياسي الذي يحيط به والذين قرروا في النهاية أن يتركوه وحيدا هم يكذبون مثله بل قد يكونون أسوأ منه.
كيف يمكننا أن نصدق أنهم لا يعرفون أنه كان يكذب وأنه يتستر على فضائح المقربين منه؟ لو كان ذلك الأمر حقيقيا فإن ذلك معناه أن بريطانيا يقودها حشد من المغفلين والأغبياء. وهو حكم ليس صحيحا.
ربما فاقهم جونسون في كذبه مما يمكن أن يعرض الدولة (العظمى) إلى هزة تاريخية. ربما كان جونسون قد قرر أن يمهر عصرهم بتوقيعه الذي اكتشفوا أنه هو الآخر زائف.
بالغ جونسون في جنونه وتعاليه المريض. ذلك انعكاس طبيعي للإمساك بأعظم منصب في العالم، حسب وصف جونسون نفسه حين تعرض إلى الهزيمة. لذلك قرروا أن يُهزم وحده. أن لا يجر حزب المحافظين الحاكم معه إلى الهاوية.
وهو ما تم التخطيط له. لن يجر جونسون معه أخطاءه. غلاء المعيشة سيبقى في أعلى مستوياته وبريكست سيظل يلقي بظلاله الكئيبة على الاقتصاد البريطاني. سيُعرى جونسون من غير أن تتم تعرية المرحلة التي صنعتها أكاذيبه ووعوده بالرخاء التي لم يلتفت إليها.
لقد اكتشف البريطانيون المتحمسون للإنفصال عن أوروبا أنهم لم يكونوا يعرفون الرجل الذي أوكلوا له قيادة بلادهم في مرحلة ما بعد بريكست. ذلك ما يمكن تصديقه. ذلك جمهور يقوده الإعلام المفبرك بتقنية مدروسة تستند إلى لغة يمكن من خلالها لفلفة الحقائق واللعب بعقول شرائح عريضة من المجتمع وهي الشرائح التي تتحكم بنتائج الانتخابات.
ولكن رئيس الوزراء الذي سيكون سابقا هو في الوقت زعيما لحزب بريطاني عريق تغص دهاليزه بالخبراء ودهاة السياسة وصناع المؤامرات والدسائس الذين لا يمكن أن يصدق المرء أنهم مرروا جونسون باعتباره هبة استثنائية.
من المؤكد أن البعض ظن أن جونسون لن يكون سوى واجهة شعبوية في عصر التفاهة الذي نعيشه من غير أن تتمكن أية قوة عقلانية من إعادته إلى مساره الطبيعي. ولكن جونسون أدار الحزب والحكومة بطريقة رعوية بحيث وجد كل من لم يلتفت إلى عصا الراعي نفسه خارج الحزب والحكومة من غير أن تشفع له كفاءته. الولاء قبل الكفاءة.
تلك فضيحة ليست جديدة، صارت بريطانيا من خلالها كما لو أنها واحدة من دول العالم الثالث. ولأن جونسون أميركي أيضا بحكم الولادة فإن راعي البقر ظل يسكنه وذلك مصدر اعجابه الشديد بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي أوهمه أن الولايات المتحدة ستعوض بريطانيا ما ستخسره بسبب انفصالها عن أوروبا.
ذلك لم يحصل.
بسرعة ظهرت تداعيات بريكست السلبية وانهارت عمارة الأكاذيب. الحقيقة التي عبرت عنها هزائم حزب المحافظين في الانتخابات البلدية. لقد صار الجمهور المبهور ببلاغة بطل بريكست الوطنية ينظر إلى ذلك البطل باعتباره مهرجا ليس إلا.
لقد ضحك جونسون على الشعب. تلك خطيئة لم يذكرها أحد في البلاغ الأخير الذي يمكن استخلاصه من أسباب تخلي الوزراء والحزب عنه. ذلك ما يمكن اعتباره نوعا من النفاق السياسي ومحاولة إخفاء الحقيقة. فبريكست هي أكبر أكاذيب جونسون وأكثرها خطرا على الحياة اليومية للبريطانيين.
ليست حفلاته في ظل الحظر المفروض بسبب كورونا. ليست فضيحة وزيره المتهم بالتحرش. ليس عجزه عن التصريح بموقفه الضريبي وليست الشبهات حول تمويل أسفاره. ليست كل أكاذيبه التي نجا منها هي التي جعلته يواجه مصيرا لم يكن يتوقعه، بل ما نتج عن بريكست وقد صار شبحا يهدد شرائح من البريطانيين والمقيمين في بريطانيا بالذهاب إلى الفقر من غير أن تنجح الوعود المؤقتة بإنقاذهم.
بدأ بوريس جونسون صعوده المدوي إلى منصب رئيس الحكومة البريطانية ببريكست فهل ستصدق الطبقة السياسية البريطانية مع نفسها فتعتبر سقوط جونسون نهاية لعصر بريكست؟
لن تنجو بريطانيا من مواجهة ذلك السؤال في ظل ما يعيشه المجتمع من انهيار على مستوى الوضع المعيشي لشرائح مهمة هي الأساس الذي تستند عليه الديمقراطية.