خيرالله خيرالله
حرب أوروبيّة طويلة
مع مرور ثلاثة أشهر على الحرب الأوكرانيّة، بدأت تظهر الانعكاسات الخطيرة للقرار الذي اتخذه فلاديمير بوتين القاضي بغزو بلد أوروبي آخر في القرن الحادي والعشرين.
للمرّة الأولى منذ انتهاء الحروب التي نتجت عن انفراط يوغوسلافيا في تسعينات القرن الماضي، تشهد أوروبا حربا على أراضيها. إنّها حرب تختلف عن الحروب الأخرى الدائرة حاليا في العالم، خصوصا حرب الداخل السوري التي تشارك فيها روسيا مباشرة. يتبيّن كلّ يوم أن حرب أوكرانيا تمسّ كلّ دولة أوروبية. ستكون حربا أوروبيّة طويلة.
يؤكّد ذلك الكلام الوارد في مذكرة صادرة عن القائد الجديد للجيش البريطاني الجنرال باتريك ساندرز. ففي أول مذكرة يصدرها منذ باشر ممارسة مهماته قبل أيّام قليلة، لم يخف ساندرز أنّ على الجنود والضباط البريطانيين الاستعداد للتحرّك سريعا في اتجاه أوروبا الشرقيّة. اعتبر أمرا حيويا أن يتمكن العسكريون البريطانيون وحلفاؤهم “من الانتصار على روسيا في المعركة”.
كان تفسير الخبراء العسكريين البريطانيين لكلام قائد القوات بأنّه دعوة إلى تطوير القدرات العسكريّة للقوات البرّية البريطانية “كي تكون مستعدة لخوض حروب برّية والانتصار فيها”. كذلك، فسّر هؤلاء الخبراء المذكرة التي نشرت صحيفة “التايمز” مقاطع منها بأنّها ردّ على رئيس الوزراء بوريس جونسون الذي قال العام الماضي “إن التصور القديم لخوض حروب دبابات على الأرض الأوروبيّة عفا عليه الزمن”.
واضح من تسريب مذكرة صادرة عن قائد الجيش البريطاني أنّه يدعو الحكومة إلى اعتماد تصور جديد للحروب الأوروبيّة يقوم على مواجهة روسيا على الأرض في القارة العجوز نفسها وليس في أي مكان آخر.
استطاع الرئيس الروسي إدخال بلده في حرب طويلة غير محسومة النتائج. نراه حاليا يقضم الأرض الأوكرانيّة ببطء بعدما اعتقد في الرابع والعشرين من شباط – فبراير الماضي، لدى بدء الهجوم على أوكرانيا، أنّ مجرد دخول الجيش الروسي إلى الأراضي الأوكرانيّة سيؤدي إلى سقوط العاصمة كييف وقيام نظام جديد موال لموسكو. لم تسقط كييف ولم يسقط النظام. صحيح أن أوكرانيا لم تعد في وارد الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، لكنّ الصحيح أيضا أنّ دولا محايدة مثل السويد وفنلندا اتخذت خطوات في اتجاه الانضمام إلى الأطلسي.
في غضون أيّام قليلة أو أسابيع، سيتمكن الجيش الروسي من السيطرة على قسم من الأراضي الأوكرانيّة وستعلن موسكو، كما هو متوقع، ضمّ هذه الأراضي المرتبطة بشبه جزيرة القرم إلى روسيا بشكل نهائي. يظلّ مثل هذا الاحتمال واردا جدّا في ظلّ حرب غير متكافئة كشفت رفض الشعب الأوكراني للاحتلال الروسي واستعداده لبذل تضحيات كبيرة لمنع سقوط البلد وعودته مرة أخرى إلى مجرد مستعمرة تحكم من موسكو حيث نظام متخلّف لا يعترف بأي نوع من الحرّية لدى المواطن. لكنّ الذي حصل في الأيّام القليلة الماضية أنّ معنويات الجنود الأوكرانيين بدأت بالهبوط في وقت تستخدم القوات الروسيّة القصف الكثيف الذي لا يفرق بين المواقع العسكريّة والمدنيّة كي تؤكد أنّها مستعدة لكلّ شيء، من أجل استعادة الأمجاد الغابرة لروسيا.
في المدى الطويل، سيتبيّن أن الرئيس الروسي ارتكب سلسلة من الأخطاء القاتلة التي لن يعوضها احتلاله لجزء من أوكرانيا. يعود ذلك إلى سبب في غاية البساطة. يكمن هذا السبب في أنّ ليس في أوروبا من هو مستعد بعد اليوم أن تكون لديه أي ثقة من أي نوع بروسيا ما دام فلاديمير بوتين يتحكّم بها. ستكون أوروبا كلّها مستنفرة في وجه الرئيس الروسي الذي يصرّ على أنّ في استطاعته استعادة وضع القطب العالمي، كما كانت عليه الحال قبل انهيار الاتحاد السوفياتي رسميا في مطلع العام 1992، في حين أنّه انهار عمليا مع سقوط جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989.
لعلّ الخطوة الأهمّ التي ستقدم عليها أوروبا، بقيادة ألمانيا، تتمثّل في الاستغناء شيئا فشيئا عن الغاز والنفط الروسيين وعن أي علاقات طبيعية مع روسيا. قررت ألمانيا العودة إلى استخدام الفحم الحجري في سياق الاستغناء عن الغاز الروسي. كذلك فعلت النمسا على الرغم من كلّ الأضرار البيئية التي يتسبب بها الفحم الحجري.
ما يؤكد أن أوروبا تستعد لحرب طويلة مع روسيا تدور رحاها على الأرض الأوكرانيّة الزيارة الأخيرة التي قام بها المستشار الألماني أولاف شولتز والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي لكييف حيث التقوا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. بعد يوم واحد، ذهب إلى كييف رئيس الوزراء البريطاني.
لم يعد سرّا أن أوروبا ترى نفسها في حرب طويلة مع روسيا. تعرف أوروبا أن لا مجال لأي تراجع في المواجهة مع فلاديمير بوتين. تكفي نظرة إلى خارطة أوكرانيا للتأكّد من أن سقوطها في يد روسيا سيعني تهديدا مباشرا لدول مثل بولندا ورومانيا. من هذا المنطلق، لا يمكن الاستخفاف بمذكرة قائد الجيش البريطاني ولا بالخطوات التي أقدمت عليها ألمانيا التي يؤكّد المسؤولون فيها أنّها في صدد إعادة بناء جيشها والتخلي عن كلّ المبادئ المعتمدة منذ هزيمتها في الحرب العالميّة الثانية التي انتهت في العام 1945.
خلق فلاديمير بوتين عالما جديدا. سترتد الحرب الأوكرانية على روسيا عاجلا أم آجلا. يشير ذلك إلى تحرّك أميركي في اتجاه المزيد من الدعم لأوكرانيا من جهة والسعي إلى حدّ أدنى من الاستقرار في سوق النفط من جهة أخرى.
سيدفع العالم غاليا ثمن حرب شنها فلاديمير بوتين الذي لم يدرك أنّ أوكرانيا ليست سوريا. في النهاية، سيكون عليه أن يسأل نفسه ماذا سيفعل بالأراضي الأوكرانيّة التي سيحتلها الجيش الروسي؟ هل سيجد من يدخل معه في مساومات تؤدي إلى الاعتراف بأن روسيا قوة عظمى، على الرغم من أنّ حجم اقتصادها أصغر من حجم الاقتصاد الإيطالي؟
المخيف في الأمر أنّ لا خيار آخر أمام الرئيس الروسي غير التصعيد، فيما لا خيار أمام أوروبا سوى خوض حرب طويلة من أجل بقاء روسيا غارقة في أوكرانيا…