فاروق يوسف
حين تلتحق الوطنية الزائفة بجمهرة العقائديين
فجأة صار دين الضحية أهمّ من الجريمة، بل وأهم من البحث عن القاتل ومحاكمته. هل كان الفدائيون الفلسطينيون من غير دين يوم أجبر النضال الفلسطيني العالم كله على الاعتراف به عنوانا لقضية فلسطين؟ لم يكن أحد يعرف شيئا عن دين الفدائي الفلسطيني الذي ينفذ مهمته البطولية ويموت. “كانت تُسمّى فلسطين/صارت تُسمّى فلسطين” حسب محمود درويش. فلسطين وحدها من غير هوامش ولا ملاحق ولا ملابسات ولا جدل فائض. كانت هي الجنة التي يسعى إليها الفدائيون. لم يكونوا في حاجة إلى أن يعلقوا أرواحهم على حبال غسيل الآخرين.
ما الذي حدث لكي لا تكون شيرين أبوعاقلة البطلة الخالصة التي يرمز مقتلها إلى البطولة الفلسطينية العابرة لكل شيء باستثناء كونها تجسيدا لإرادة شعب قرر ألاّ يغادر فجره وألاّ يكون بعيدا عن قيامته في أيّ لحظة تحل.
لم تكن شيرين مقاتلة غير أنها لم تخف يوما مّا انحيازها إلى الضحايا من أبناء وطنها. كانت تقف على الضفة التي يقفون عليها وهي جبهتهم الأخيرة. في كل الأحوال فإنها لم تكن تناصرهم باعتبارها غريبة بل كانت تقاتل معهم بالصوت والصورة من غير أن تراودها فكرة أنها المسيحية التي تقف مع مسلمين. لم يكن هناك شيء من ذلك الغباء في سلوكها. أما حين يفخر البعض بأن مسلمين شيعوا مسيحية فإن ذلك يعني الوصول إلى ذروة الانحطاط.
من كان يشعر أنه مسلم يصلي على مسيحية فإن صلاته بالتأكيد غير مقبولة. ذلك لأنها أشبه بالصلاة المستأجرة. ما فعله الفلسطينيون يوم تحدّوا سلطات الاحتلال الإسرائيلي وخرجوا لتشييع ابنتهم هو التعبير الصادق عن الوطنية الفلسطينية التي لا مكان للأديان فيها. وحتى الصلاة فقد كانت نوعا من البلاغة التي تُخرج اللغة من إطارها التقليدي لتطيح بمسلّماتها وتسلّمها إلى مطلق دعائها. كل مَن صلى على شيرين فإنه كان يدعو من أجل أن يلاقي ربه نقيا في علاقته بوطنه مثلما كان حال تلك المرأة التي حلت فلسطين محل المرآة في حياتها.
من السخف فعلا أن يُقال إن صلاة المسلمين على شيرين كانت عنوانا للوحدة الفلسطينية. فمراسلة “الجزيرة” لم تُقتل باعتبارها مسيحية كما أن الذين حضروا لتشييعها لم يحضروا باعتبارهم مسلمين. ذلك القول يخون الواقع ويعمل على تصغير القضية الفلسطينية بحيث تبدو كما لو أنها حوار أعمى بين الطوائف. لسنا جاهزين لفهم قضية بحجم قضية فلسطين. تلك ردة يضحك منها الماضي. كان مؤسفا أن يتم تركيب نوع جديد من الفلسطينية على أساس التنوع الديني وهو ما لم يكن واردا في الأجندة النضالية الفلسطينية. لقد صلّى الفلسطينيون على جثمان فلسطينية حلّقت روحها إلى السماء باسم فلسطين. ألا يكفي ذلك أم علينا أن نضيف ما يُفسد تلك المناسبة؟ تلك مناسبة تاريخية لكي يظهر الفلسطينيون على حقيقتهم. الشعب الذي حافظ على هويته التي عمل العالم كله على إلغائها.
في مواجهة تلك الحقيقة نستعيد إدوارد سعيد وهو يخاطب العالم باسم فلسطين. لقد أحرق فلسطينيون ذات يوم كتبه. غير أن ذلك لم يقلل من قيمة ما فعله من أجل الدفاع عن الحقيقة الفلسطينية. لا تقدم صلاة مسلمين على جثمان سعيد أو تؤخر. وكانت فكرة حرق كتبه تعبر عن بلاهة مستحكمة. وإذا ما كان سعيد مسيحيا من وجهة نظر حارقي كتبه فإنهم كانوا أغبى من أن يفهموا موقفه الوطني. حاربه العالم لأنه فلسطيني ولم يكن أحد من أعدائه يفكر في أنه مسيحي.
لقد كشفت تداعيات الجدل المؤسف الذي تلا استشهاد شيرين أبوعاقلة عن زيف الشعور الوطني لدى الكثيرين وبالأخص أولئك الذين يضعون الوطنية في سياق عقائدي. وهم عن طريق ذلك الاستلاب إنما يفرغون الوطنية من محتواها ويكشفون عن علاقة غير سوية بالوطن. وبالنسبة إلى الفلسطينيين فإن ذلك المنحى غير السليم يضعهم في مواجهة تحول، يكون معه ضياع القضية أمرا محتملا.
فالقضية الفلسطينية لم تأخذ طريقها إلى العالمية عبر الدهاليز العقائدية الضيقة بل من خلال انفتاحها على الأفق الوطني الواسع الذي كان استشهاد أبوعاقلة وسواها من فلسطينيي الداخل ممَن لا يعرف أحد شيئا عن معتقداتهم خير تعبير عنه.
أما وقد التحق دعاة الوطنية الناقصة بالعقائديين حين صاروا يصفون التضامن الوطني بأنه نوع من التضامن العقائدي فإن ذلك يشكل نقضا لمبدأ الوطنية التي هي أساس الوعد الفلسطيني بالحرية.