الخليج والولايات المتحدة.. هل تأثر التحالف الاستراتيجي؟
ناقشت تحليلات ومقالات كثيرة التداعيات الناجمة عن الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وأشار بعضها إلى أن من بين هذه التداعيات تراجع الثقة في التحالف الاستراتيجي القائم بين دول مجلس التعاون والولايات المتحدة وتآكل الثقة في الوعود الأميركية بحماية مصالح حلفائها من دول المجلس في حال تعرضت لأي تهديدات. وبرأيي فإن تحليل المشهد الراهن بدقة يوحي بأن هناك مبالغة شديدة في الربط بين الفوضى التي رافقت الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وبين التزامات الولايات المتحدة بأمن حلفائها في الخليج العربي، رغم أن ذلك لا ينفي حدوث تغيرات نسبية واضحة في هذا الالتزام ولكنها تغييرات لا علاقة لها بالمشهد الأفغاني.
والحقيقة الواضحة للجميع أن هناك جدالا أميركيا محتدما بين الديمقراطيين والجمهوريين حول حدود الدور الأميركي في منطقة الخليج العربي، وقد ازداد هذا الجدال بشكل واضح عقب ثورة النفط الصخري في الولايات المتحدة وتراجع الحاجة الأميركية لموارد الطاقة النفطية، وبالتالي يمكن القول إن "عقيدة كارتر" التي تؤطر العلاقة بين الولايات المتحدة ومنطقة الخليج العربي منذ عام 1980، وتقضي باللجوء للقوة العسكرية للدفاع عن مصالح الولايات المتحدة في الخليج، لا تزال هذه العقيدة قائمة ولكن بدرجات التزام أقل بكثير عما سبق بحكم تغير الظروف والبيئة الاستراتيجية، ولكن من الصعب القول بأن هذه العقيدة قد تغيرت تماما لأن الولايات المتحدة كقوة عظمى لا تزال تمتلك شبكة واسعة من المصالح الجيوسياسية في منطقة الخليج العربي.
تحليل المشهد الراهن بدقة يوحي بأن هناك مبالغة شديدة في الربط بين الفوضى التي رافقت الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وبين التزامات الولايات المتحدة بأمن حلفائها في الخليج العربي
الحقيقة أيضاً أنه يمكن القول بأن عدم حدوث تغير في عقيدة كارتر لا يعني أن هناك التزاما أميركيا قطعيا بتنفيذها، فالشواهد تقول إن هناك تحولات على المستوى التكتيكي، بمعنى أن المبدأ قائم ولكن تنفيذه بات مرهونا باعتبارات وعوامل تحد من فاعليته كثيراً على أرض الواقع. والأمر هنا ليس جديداً أو طارئاً، فالالتزام بالدفاع عن المصالح الاستراتيجية الأميركية لا يعني في نظر بعض النخب الأميركية التدخل عسكرياً دفاعاً عن مصالح حلفاء واشنطن في المنطقة، إذ يعتقد هؤلاء أن المصالح الأميركية لم تعد كما كانت في عام 1980، وأن هذه المصالح قد خضعت لتفسيرات عدة بحسب وجهة نظر الإدارات الأميركية، ويستشهد هؤلاء بالاتفاق النووي الذي وقعته إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما مع ملالي إيران، حيث تجاهل الاتفاق الهواجس الأمنية المشروعة لحلفاء الولايات المتحدة الخليجيين وركز على ما اعتبره مصالح استراتيجية أميركية من وراء هذا الاتفاق، الذي لم يسفر سوى عن إلحاق بالغ الضرر بمصالح واشنطن وحلفائها على حد سواء!
كان الرئيس الأسبق جيمي كارتر يرى في أي محاولة من جانب الاتحاد السوفييتي السابق أو غيره من القوى للسيطرة على منطقة الخليج العربي ومواردها النفطية يعتبر اعتداء على المصالح الاستراتيجية الأميركية، بما يستوجب التصدي له بالقوة العسكرية إن تطلب الأمر ذلك. ولكن ما حدث بعد ذلك أن الرئيس السابق دونالد ترامب قد تابع الهجوم الذي تعرضت له المنشآت النفطية السعودية في نوفمبر 2019، ووجهت أصابع الاتهام فيه إلى إيران، ولم يحرك ساكناً، رغم أن الهجوم اُعتبر وقتذاك رسالة للولايات المتحدة وردّا إيرانيا على انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي.
رغم أن الرئيس السابق ترامب قد أسس لتغيرات مهمة في الرؤية الاستراتيجية الأميركية لعلاقات التحالف مع دول مجلس التعاون بما أسهم في إحداث شروخ عميقة بين الجانبين، كون هذه التغييرات قد ارتقت إلى مستوى إعادة تعريف هذه العلاقات وتحويلها إلى علاقات منفعة مادية بحتة وليست مصالح استراتيجية ممتدة ومنافع متبادلة، فإن المؤكد أن مصالح الولايات المتحدة في المنطقة لم تتغير كثيراً، وأن كل ما طرأ عليها في هذا الشأن يأتي في إطار ترتيب الأولويات والاهتمامات الاستراتيجية الأميركية بحكم التطورات الحاصلة دولياً وبروز تحديات ترى واشنطن أنها تتطلب المزيد من التركيز.
فتح قنوات اتصال وحوار بين بعض دول مجلس التعاون وإيران في الآونة الأخيرة لا يعكس انحسارا للثقة في مستويات الاعتمادية على الحليف الأميركي بقدر ما يعد استجابة استراتيجية منطقية للتطورات
فالخليج ليس نفطاً فقط من منظور المصالح الاستراتيجية الأميركية، بل إن الأمر يتعلق بنفوذها ومكانتها وهيمنتها على النظام العالمي، كما يرتبط ارتباطاً وثيقاً باستقرارها الاقتصادي. والعلاقات مع الولايات المتحدة ليست غطاء حماية ولا صادرات سلاح فقط من منظور دول مجلس التعاون والأمر أعمق وأوسع من ذلك وله ارتباط وثيق بمصالح الطرفين الاستراتيجية.
وفي ضوء ما سبق، فإن فتح قنوات اتصال وحوار بين بعض دول مجلس التعاون وإيران في الآونة الأخيرة لا يعكس انحسارا للثقة في مستويات الاعتمادية على الحليف الأميركي بقدر ما يعد استجابة استراتيجية منطقية للتطورات التي تشهدها المنطقة والعالم، بما في رغبة هذه الدول في تنويع خياراتها الاستراتيجية وضمان أمن المنطقة واستقرارها عبر آليات وأدوات تتماهى مع ما تشهده السياسة الخارجية الأميركية من تطورات ولاسيما في ما يتصل بإدارة العلاقات مع إيران.
وأخيراً، يمكن الإشارة إلى أن دول مجلس التعاون لم تعد كما كانت في السابق بل نجحت في ترجمة قوتها الاقتصادية والاستثمارية والتجارية إلى رصيد سياسي واستراتيجي قائم على التنوع والتعددية في علاقات التحالف والشراكات الاستراتيجية مع القوى الكبرى، بما يدفع للقول بأنه إذا كانت السياسة الخارجية الأميركية قد تغيرت فإن سياسات دول مجلس التعاون قد تغيرت بدورها وأصبحت أكثر ميلاً للاستقلال والبحث عن المصالح والمشتركات والتحالفات مع مختلف القوى الكبرى ومن بينها بطبيعة الحال الولايات المتحدة، التي لم تعد الشريك أو الحليف الأوحد لهذه الدول، فضلاً عن أن أمن الخليج العربي لم يعد مسؤولية أميركية حصرية بل بات محل اهتمام جميع الدول الكبرى، وفي مقدمتها الصين وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي.